المطلب الثاني: اثر المذهب الليبرالي - الفردي في الإعلانات و الدساتير الأمريكية
إن ما يعرف اليوم بالولايات المتحدة الأمريكية كانت عبارة عن مستعمرات انجليزية تمتد من حدود كندا الخاضعة للاستعمار الفرنسي إلى أقصى جنوب قارة أمريكا الشمالية أي الحدود المكسيكية و قد كانت المستعمرات الانجليزية تدار عبر حكم ذاتي لكن ابتداء من سنة 1776 إلى غاية 1791 عرفت هذه المستعمرات البالغ عددها ثلاثة عشر موجة من الإعلانات الخاصة بالحرية و الاستقلال عن التاج البريطاني وهي و وثيقة إعلان استقلال المستعمرات ( الفرع الأول ) و وثيقة فيرجينيا للحقوق ( الفرع الثاني ) و دستور الولايات المتحدة الأمريكية ( الفرع الثالث ).
صدرت هذه الوثيقة معلنة استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن التاج البريطاني و بان للولايات المستقلة كامل الحرية في العيش باستقلال و حرية بعيدا عن أي تحكم بريطاني وان كل ولاية أصبحت دولة حرة و مستقلة
ومن بين ما ورد في وثيقة " استقلال فيلادلفيا " هو " أن الاحترام الصحيح لرأي الإنسان يتطلب من هذا الشعب أن يعلن الأسباب التي حملته على هذا الانفصال هذه الحقائق في نظرنا حقائق بديهية بذاتها وهي أن جميع الناس يولدون متساوين و أن خالقهم منحهم حقوقا ثابتة ومنها حق الحياة و الحرية و السعي و راء السعادة و أن الناس يقيمون الحكومات التي تستمد سلطتها من رضا المحكومين و موافقتهم ".
تعد ولاية فيرجينيا من أوائل الدول التي أصدرت إعلانا للحقوق تحت اسم قانون الحقوق ومن بين ما ينص عليه في المادة الأولى من أصل ستة عشر مادة أن " جميع الناس خلقوا أحرارا متساوين و مستقلين و لهم حقوق موروثة لا يجوز لهم عند دخولهم في حياة المجتمع أن يتفقوا على حرمان خلفائهم منها و هذه الحقوق هي الحق في التمتع بالحياة و الحرية عن طريق اكتساب و حيازة الأموال و بالسعي وراء الحرية و الأمان و الحصول عليهما .
لما كان هاجس واضعي الدستور هو إيجاد صيغة توفيقية بين الحاجة الملحة إلى خلق دولة اتحادية و بين رغبات الدول في الحفاظ على استقلالها و شخصيتها المتميزة و لهذا السبب لم ينص الدستور الاتحادي على إعلان للحقوق .
ولكن بمجرد نزول الدستور إلى مرحلة التطبيق شعرت الولايات المكونة للاتحاد بأنه من اللازم تضمين الدستور نصوصا تحمي الحريات العامة و حقوق الأفراد و تحمي في نفس الوقت حقوق الولايات في مواجهة الدولة الاتحادية الأمر الذي استوجب إعادة النظر في الوثيقة الدستورية عدة مرات بلغت ستة و عشرين تعديلا امتدت على مدة ثلاثة سنوات تلتها تعديلات أخرى طيلة القرنين التاسع عشر و العشرين همت توسيع مجال الحريات العامة .
يعتبر " إعلان حقوق الإنسان و المواطن " الصادر إبان الثورة الفرنسية سنة 1789 وثيقة أساسية و مرجعية للحريات العامة و تعبيرا صادقا و أمينا عن فلسفة المذهب الليبرالي - الفردي فالإعلان يمجد الفرد ضدا على النظام الملكي المطلق الذي حكم فرنسا طيلة القرون الوسطي و عهد ما قبل الثورة الفرنسية أليس الملك " لويس الرابع عشر " هو القائل " أنا الدولة".
لذا لما اندلعت الثورة الفرنسية اقتلعت النظام القديم واتخذت من مبادئ الحرية و المساواة و الأخوة شعارا لها .
و هكذا أقام رجال الثورة مجتمع المساواة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و لهذا أكد إعلان حقوق الإنسان و المواطن على الحقوق الأساسية التي يتمتع بها الإنسان بحكم طبيعته و أدميته ومما جاء في مقدمة الإعلان :
" إن ممثلي الشعب الفرنسي مجتمعين في جمعية وطنية لما كانوا يعتبرون الجهل بحقوق الإنسان أو تناسيها أو ازدراءها هي وحدها أسباب الشقاء العام و فساد الحكومات فقد عقدوا العزم على سرد حقوق الإنسان الطبيعية المقدسة و التي لا يمكن التنازل عنها- - - - الناس يولدون و يظلون أحرارا متساوين في الحقوق و لا يجوز أن توجد فوارق اجتماعية إلا وفقا للمنفعة العامة ......." و " هدف كل تجمع سياسي هو المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية الدائمة هذه الحقوق هي الحرية و الملكية و الأمن و مقاومة الاضطهاد "
هذه بعض الحقوق و الحريات العامة التي وردت في إعلان حقوق الإنسان و المواطن و التي يتجلى من خلالها صدى المذهب الليبرالي - الفردي واضحا .
ولكن هل الإعجاب بالمذهب الليبرالي - الفردي و تقديسه للحرية و للمبادرة الفردية لم تكن فيه تعاسة الإنسان الفرد عبر استغلال الإنسان لأخيه الإنسان تحت ذريعة الحرية و المبادرة و الجشع في تكوين رأس المال ؟
الم تصبح الليبرالية المتوحشة أداة لطحن المقهورين و الذين لا يملكون سوى قوة عضلاتهم ؟
و هل تراجع المذهب الليبرالي - الفردي أمام طوبى المذهب الاشتراكي الذي نادى بتحرير الإنسان من نير عبودية واستغلال المذهب الليبرالي - الفردي و شعاراته الخادعة ؟
المبحث الثالث: أزمة المذهب الليبرالي - الفردي
تحت ضغط الانتقادات الاشتراكية
إذا كانت تعاليم المذهب الليبرالي - الفردي قد قامت على أساس تقديس الفرد و تأكيد حقوقه الطبيعية و كفالة حرياته و ضمان المساواة بين الجميع أمام القانون و إذا كانت كل هذه التعاليم قد دفعت حركات التحرير في أوربا إلى التخلص من الماضي الثقيل بأهواله و حكمه الاستبدادي فانه لم يسلم منذ تاريخ قيامه و انتشاره من النقد و الاتهام حيث وجهت الانتقادات لأسسه الفلسفية - (المطلب الأول ) - وكان لازمته كذلك صدى و آثارا على الحريات العامة - (المطلب الثاني ) – .
المطلب الأول: مظاهر أزمة المذهب الليبرالي - الفردي
المذهب الليبرالي - الفردي الذي انتشرت تعاليمه الفلسفية و السياسية و الاقتصادية و القانونية انتشارا واسعا وكان له تأثير في الكثير من الإعلانات و الوثائق الدستورية سواء الانجليزية أو الأمريكية أو الفرنسية ما فتئ أن تعرض للهجوم على أسسه الفلسفية و نقد أفكاره (الفرع الأول )فهو و إن دفع إلى التخلص من موروثات الماضي القائمة على التحكم و الاستبداد فانه على الرغم من ذلك كان هدفا لهجوم شديد من حيث افتقاده للأساس العلمي المقبول كما انه عاجز على أن يحقق ضمانة أكيدة للأفراد الذين يهدف إلى خيرهم ( الفرع الثاني
الفرع الأول: رفض الأسس الفلسفية للمذهب الفردي
سبق أن تمت الإشارة إلى كون القانون الطبيعي أو الحقوق الطبيعية تعد من المصادر الفكرية للمذهب الفردي وتنبني على كون الفرد في حياة عزلته البدائية كان يتمتع بحقوق شخصية و حريات ذاتية ترجع إلى طبيعته الإنسانية تولد معه و تلتصق به و يسعى هو إلى تحقيقها و نمائها ومن تم فان انتقال الفرد من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية عبر العقد الاجتماعي الذي ابرمه مع غيره من الأفراد لم يتم إلا لصون هذه الحقوق و الحريات وبناء عليه فان دور الدولة وجب أن ينحصر ووفقا لمقتضيات القانون الطبيعي في السهر على الفرد و إقرار العدالة و الدفاع على أن تترك للفرد مطلق حرياته اللازمة لتحقيق مصالحه . ويذهب المعارضون إلى أن هذا الأساس الفلسفي للحقوق الفردية و الحريات لا يمكن أن يعتبر إلا خيالا و تصورا ذهنيا لا يستند إلى شيء من التاريخ الإنساني و لا يقوم على أسس ثابتة من الحقيقة و الواقع.
فبالرجوع إلى التجربة و التحليل و منطق الواقع العلمي السليم سنقف على طبيعة الإنسان العلمية و حقيقة تكوينه النفسي و الاجتماعي و يتأكد لنا فساد المذهب الليبرالي - الفردي انطلاقا من هذا الأساس الفلسفي فالإنسان بطبيعته لا يمكنه أن يعيش في عزلة انه في مسيرة تاريخه لم يثبت علميا أن وجد إنسان عاش وحيدا منفردا عن بني جنسه من البشر فالإنسان اجتماعي بطبعه وميال إلى العيش مع غيره من الناس و به غريزة الجماعة .
وإذا كانت هذه هي حقيقة الإنسان الاجتماعية العلمية فان نظرية الحقوق الطبيعية لن تكون إلا ضربا من ضروب الخيال و تصورا ذهنيا فالفرد لا يوجد إلا بالجماعة ولا كيان له إلا بها هذا من حيث الجانب الاجتماعي للفرد.
أما من ناحية قيمة الحقوق الطبيعية المزعومة فان المذهب الليبرالي - الفردي يقوم على أساس مغالطة مكشوفة فلو افترضنا جدلا أن الإنسان الفرد عاش منعزلا و متمتعا بحقوقه و حرياته الفطرية أو الطبيعية فما قيمة الحقوق و الحريات و الفرد يعيش في عزلة عن سواه من الناس
إن الحقوق و الحريات قدرات إرادية تأخذ مظهرها الخارجي في علاقات الفرد مع غيره بقصد تأكيد ذاته و إلزام الآخرين باحترام شخصه و ماله و مظاهر نشاطه فالحقوق و الحريات ظواهر اجتماعية لا تقوم إلا في إطار العيش في جماعة تثور بين أفرادها دواعي التمسك بالحقوق و التدافع لحماية الحريات في مواجهة " الآخر" .
انتقاض آخر يوجهه المعارضون للمذهب الفردي ينبني على كون القانون الطبيعي صالح لكل الشعوب و في كل العصور يعطي صورة نمطية عن القوانين و يتناقض مع فكرة تحكم القانون باعتباره ظاهرة اجتماعية تعكس صورة المجتمع .
كما أن القول بان القانون الطبيعي صالح لكل الشعوب يتنافى و خصوصية كل شعب و ثقافته وعاداته ذلك أن مناط المفاضلة بين القوانين هو مدى لاءمتها و تكيفها مع حياة الأمة و خصوصياتها .
الفرع الثاني: رفض فكرة المساواة القانونية
يقوم هذا الاعتراض على فكرة المساواة القانونية التي يتبناها المذهب الليبرالي - الفردي في كون كل الناس يولدون متساوين بأنه طرح افتراضي لا أساس له من الصحة على ارض الواقع ذلك أن الثابت هو كون أعضاء جماعة ما يختلفون منذ الولادة في الملكات و المواهب و القوى و من تم فان الادعاء بأنهم يولدون متساوين ليس أكثر من افتراض خيالي لا يستند على سند واقعي أو برهان علمي .
وبما أن الأفراد داخل مجتمع ما غير متساوين فعليا من حيث القدرات و الملكات و المواهب فانه بالضرورة غير متساوين أمام القانون فالأقوياء سوف لن يزدادوا إلا قوة و الضعفاء سوف لن يزدادوا إلا ضعفا وعليه فان المذهب الليبرالي - الفردي لا يحقق المساواة القانونية وهو بالتالي لا يحقق مصلحة الأفراد الحقيقية بل يكرس استغلال طبقة الأقوياء لطبقة الضعفاء و يؤكد بذلك ازدياد عوامل الاختلاف و عدم المساواة .
ومن النطقي ألا يعامل جميع الأفراد معاملة واحدة بل يجب تحقيقا للمساواة الفعلية أن تختلف معاملتهم بحسب ما يفصل بينهم من أسباب الاختلاف وهو أمر يعجز عن تحقيقه المذهب الليبرالي - الفردي و تحققه النزعات الاشتراكية حيث تتدخل الدولة لتنظيم جهود الأفراد بل و لمباشرة بعض أوجه النشاط الاجتماعي و الاقتصادي حتى تحقق المساواة الفعلية بين مختلف الطبقات الاجتماعية و تضمن التوازن الاجتماعي الحقيقي للأمة .
أضف إلى كل هذه الانتقادات أن المذهب الليبرالي - الفردي في طرحه الكلاسيكي أصبح متجاوزا فنظرية الحرية المطلقة أصبحت غير مستساغة أمام تدخل الدولة لتقنين مجال الحريات العامة حتى لا تتحول ممارستها إلى فوضى الحرية أما الملكية المطلقة في المذهب الليبرالي - الفردي فهي مقيدة بالضوابط القانونية و للدولة حق نزعها لتحقيق المصلحة العامة متى رأت ذلك ضروريا و هكذا فسائر حقوق الأفراد هي موجودة و معترف بها إلا أنها ليست امتيازات طبيعية يمتلكها الفرد بحكم آدميته و لكنها إمكانيات تمارس في إطار التضامن و التكافل الاجتماعي .
المطلب الثاني: صدى الأزمة في نظرية الحريات العامة
لقد ظهرت مساوئ المذهب الليبرالي - الفردي بتنامي النظام الرأسمالي وظهور الليبرالية المتوحشة كنظام قائم على الاستغلال الفاحش لقدرات الطبقة العاملة التي لم ير فيها الرأسماليون إلا آلة لتحريك عجلة الاقتصاد وهكذا تكاثرت المدن الصناعية بكل من فرنسا و انجلترا و الولايات المتحدة الأمريكية وتكدس العمال و عائلاتهم الفقيرة في ظروف للعيش اتسمت بالصعوبة .
و كلما تقدم الزمن بالنظام الحر ازدادت مساوئ الرأسمالية و زادت الفرقة و وضوحا بين الطبقة العاملة و الطبقة الرأسمالية وهو ما دفع بالمذهب الاشتراكي إلى الانتشار باعتباره خير وسيلة لتحقيق المساواة الفعلية بين جميع الأفراد بشكل لا يقوى عليه المذهب الليبرالي - الفردي .
و باندلاع الحرب العالمية الأولى اهتز المجتمع البشري هزة عنيفة أحدثت تصدعا في نفوذ البرجوازية و أشاعت الشك في موروث العقائد و زعزعت العقائد و القيم و انتقل مركز الثقل في السيادة إلى الطبقات الشعبية التي رأت في المذهب الاشتراكي و أفكاره المنقذ و المخلص من ويلات النظام الرأسمالي الحر .
وكان من شان ذلك أن ظهرت في المجتمع قوى سياسية جديدة بدأت تستشعر ضرورة سيطرتها على النظام وهو ما أدى إلى انهيار المذهب الليبرالي - الفردي في الكثير من الدول فانقلب النظام في روسيا و أصبحت منذ أوائل القرن العشرين حقل التجربة للنظرية الماركسية .
وهكذا وفي ظل المذهب الاشتراكي أصبح التركيز في المجتمع منصبا على حقوق الجماعات لا الأفراد وعن طريق المشرع و وقعت تعاليم المذهب الليبرالي - الفردي تحث تأثير الفكر الجديد و أصابها في فرنسا و انجلترا و أمريكا الكثير من التقييد و التحديد حتى أصبحت في صورتها النهائية لا تختلف كثيرا عن معنى الوظائف و الاختصاصات التي يحددها القانون للفرد و يرخص له بمباشرتها تحقيقا للخير العام .
ثم اتسع نطاق تدخل الدولة في النشاط الحر الأفراد و وجدت الدولة نفسها مضطرة إلى الخروج من نطاق الدولة الحارسة التي ينحصر دورها في صيانة الأمن و الدفاع و تحقيق العدالة إلى لعب دور الدولة المتدخلة التي تقدم الخدمات الأساسية للإفراد كالتعليم و الخدمات الاجتماعية كالصحة و النقل إلى غير ذلك من المشاريع اللازمة لحماية الطبقات الفقيرة .
وبناء عليه حصل تحول في الديمقراطيات السياسية إلى ديمقراطيات اجتماعية و اقتصادية وتم الانتقال من الاهتمام بالدفاع عن حريات الأفراد إلى الدفاع عن حرية تأسيس النقابات و الجمعيات ( الفرع الأول ) ومن القدرة على التصرف الحر إلى المطالبة بعمل شيء ( الفرع الثاني ) و أصبح الحديث يدور حول الحريات النسبية المقيدة بدل الحريات المطلقة ( الفرع الثالث )
الفرع الأول: من الحريات الفردية إلى الحريات الجماعية
لقد تأسس المذهب الليبرالي - الفردي على فكرة تحرير الفرد من الأنظمة الاستبدادية و التسلطية التي كانت سائدة في القرون الوسطى ومن كل إشكال الاستغلال و القهر و منطلقه في الفرد الواحد .
وهكذا جاء إعلان حقوق الإنسان و المواطن الفرنسي متأثرا بهذه الفلسفة " الفردانية " بحيث لا يعترف بغير الفرد كشخص قانوني له وجوده وحقوقه و حرياته و إذا كانت دساتير الثورة خصوصا دستور 1791 قد أكد للفرد حرية الاجتماع فهو لم يقصد الاعتراف للجمعيات و النقابات بوجود ذاتي . ذلك أن حرية الاجتماع التي قررتها هذه الدساتير لا تعدو إلا أن تكون حرية التواجد المؤقت بين الأفراد للتشاور و تبادل الرأي دون أن يكون لهذا الاجتماع كيان ذاتي متميز عن الأفراد المكونين له.
و هناك سبب آخر يفسر موقف إعلان الحقوق الفرنسي من النقابات و الجمعيات وعدم اعترافه بها ففضلا عن أخذه بتعاليم المذهب الليبرالي - الفردي التي لا تقيم وزنا إلا للإنسان الفرد قد أراد أن يحرر الفرد نهائيا من بقايا النظام القديم هذا النظام الذي لم يقتصر التحكم فيه و الاستبداد على النظام الملكي المطلق بل امتد إلى سيطرة الطوائف التجارية و الصناعية . فإذا كان هدف الثورة الفرنسية هو تحطيم الحكم المطلق و تحرير الفرد من بقايا الإقطاع و ما يقوم عليه من امتيازات خاصة كان لزاما أن يحرر الفرد نهائيا من كل أشكال التسلط ومنها الأنظمة الطائفية التي تحول دون الأفراد و ممارستهم لحرياتهم الفردية الصناعية و التجارية باعتبارها أهم ثمار الرأسمالية و المذهب الاقتصادي الحر .
و استمر القانون الفرنسي ينكر على الجمعيات و النقابات حقها في الوجود القانوني التلقائي و يخضعها لشرط الترخيص المسبق على أن تخضع لنظام دقيق في الرقابة حتى عهد الجمهورية الثالثة حيث اعترف قانون 21 مارس 1884 و قانون 01 يوليو 1901 التي للإفراد بحق تكوين النقابات و الجمعيات دون ترخيص سابق .
و بهذه القوانين الجديدة اعترف المشرع الفرنسي للنقابات و الجمعيات بالشخصية القانونية التلقائية دون أن تكون هذه الشخصية القانونية منحة من الدولة كما كان الوضع السابق.
و ليس ثمة شك في أن هذا التطور الذي لازم نظرية الحريات العامة انتقل بها من مجالها الفردي الخاص باعتبارها امتيازات للإنسان الفرد إلى المجال الجماعي بحيث أصبحت النقابات و الجمعيات أشخاصا قانونية لها الشخصية القانونية المستقلة عن الأفراد المؤسسين و لها و جودها الذاتي و كيانها المتميز . و مما لا شك فيه أن هذا التطور هو تأثير واضح في الابتعاد عن تعاليم المذهب الليبرالي - الفردي التقليدية و تكيف المشرع مع مقتضيات الحياة الاجتماعية و الاقتصادية الجديدة التي ولدها تكتل الفلاحين و العمال و الصناع في جماعات للدفاع عن مصالحهم المشتركة و عن حرياتهم الفردية و الجماعية في مواجهة أرباب العمل و أصحاب الرأسمال و بالتالي فالجمعيات و النقابات أصبحت هي المكان الطبيعي و العادي للدفاع عن مثل هذه الأفكار .
الفرع الثاني: من القدرة على التصرف الحر إلى مطالبة الدولة بعمل شيء
لقد كان من مقتضيات تقديس الفرد و احترام ذاتيته أن اقر أنصار المذهب الليبرالي - الفردي أن الإنسان الحر قادر على تحقيق الخير لنفسه بنفسه وخير من يعرف أحسن الوسائل لتحقيق مصالحه و غاياته و كان منطقيا أن يمنح الحرية اللازمة لمباشرة نشاطه و استغلال كفاءاته لتحقيق ذلك .
و من تم لزم أن يكون الأفراد أحرارا في العمل طبقا لما تمليه عليهم مصالحهم و أن يسمح لهم بمزاولة الأنشطة التي يختارونها و ليس للدولة أن تعرقل نشاطهم ا وان تتدخل لمساعدتهم ذلك أن كل فرد سيعمل و سيحقق مصالحه حسب إمكانياته العقلية و القانونية و هو في ذلك سيخدم المصلحة الجماعية المشتركة وليس من حق الدولة التدخل لا لمساعدة الضعفاء و لا لحماية الأقوياء بل إن دورها ينحصر في تحقيق الأمن و العدالة وحماية الحريات الفردية .
و بهذه النزعة الفردية المطلقة ظهرت مساوئ النظام الرأسمالي القائم على فلسفة المذهب الليبرالي - الفردي المشجع على الاستغلال في أقصى صوره و جاء إعلان حقوق الإنسان و المواطن مكرسا لذلك فهو لا يقيم على الدولة التزاما آخر إلا كفالة الحريات و ضمانها وليس لها بعد ذلك أن تتدخل في شيء مما يسمح للأفراد بحرية التصرف المطلق .
و لعل ما يبرر للمذهب الفردي هذا التوجه هو أن الإنسانية في القرن الثامن عشر لم تكن تشكو من شيء سوى شكواها من مظالم الحكم المطلق و استبداد الطبقات صاحبة الامتيازات حيث كان الاقتصاد ما يزال يقوم على الزراعة فلم تكن الحياة قد أصابها التعقيد و لم تكن الفوارق الطبقية الاجتماعية و الاقتصادية قد ظهرت بشكل واضح كما لم يتكون و عي طبقي بضرورة الإصلاح و التغيير .
و بالرغم من اندلاع الثورة الفرنسية و اقتلاعها للنظام القديم فإنها لم تعترف للفرد إلا بالحقوق السياسية السلبية التي لا تلزم الدولة بعمل شيء ما بقدر ما تلزمها بعدم التدخل .
و لكن تحت ضغط التطور في الظروف الاقتصادية و الاجتماعية و تنامي انتشار النزعات و الأفكار الاشتراكية و وضوح الفوارق بين طبقات المجتمع بدا التحول في مدلول الحريات العامة ظاهرا من المدلول السياسي السلبي أي مطالبة الدولة بعدم التدخل في الحريات الفردية للأشخاص إلى ضرورة دعوتها للتدخل الايجابي عبر مطالبتها للقيام بمجموعة من الأعمال و الوظائف الاجتماعية كالتعليم و الصحة و النقل .
الفرع الثالث:من الحريات المطلقة إلى الحريات النسبية المقيدة
إذا كان المذهب الليبرالي - الفردي في طرحه التقليدي يقوم على مبدأ الحرية المطلقة و إلزام الدولة بعدم التدخل في أنشطة الفرد فانه بذلك يدعو إلى الفوضوية و إلى الخروج عن كل نظام جماعي فهي فكرة بدون شك تهدد كل قيمة للمجتمع المنظم الذي يجب أن تسود فيه كلمة الحق و القانون .
فمنطق الدخول في الجماعة و الاعتراف بسيادة القانون ليحقق التوافق بين الحريات المتنافرة بين الأفراد يوجب على كل فرد التخلي عن مظاهر حريته المطلقة فيقبل الحدود التي يقيمها القانون و ينزل عند أوامره لكفالة النظام الجماعي.
و بناء عليه لم يكن من المنطقي و لا من المقبول أن تؤخذ الحقوق و الحريات بمعناها الفلسفي المطلق و عليه لا بد من الخضوع و التقيد بالقانون و قواعده أي أن المشرع لا بد يتدخل لينظم مجال الحريات و أن يفرض على الحريات العامة و ممارستها بعض أنواع القيود و الضوابط و ذلك حفاظا على كيان المجتمع و قيمه و خصوصياته .
فالحريات تمارس دائما في ظل القانون مقيدة بالضوابط القانونية حتى لا تتحول ممارستها إلى فوضى و هذا ما يتضح جليا في مجموعة من الدساتير التي ترصد بابا معينا للحريات حيث تؤكد على صيانتها و كفالتها تم تحيل على مجموعة من القوانين التي تنظمها و تحدد كيفية ممارستها و مثاله الحق في ممارسة الإضراب بالمغرب فهو حق مضمون و لكن لممارسته لا بد من احترام الشروط و الإجراءات التي يمكن معها ممارسة هذا الحق .
الحريات العامة وحقوق الإنسان في المذهب الاشتراكي
أمام الانتقادات التي وجهت للمذهب الفردي في أسسه الفكرية والفلسفية، وأمام تنامي مساوئه بتنامي النظام الرأسمالي وظهور الليبرالية المتوحشة كنظام قائم على الاستغلال الفاحش لقدرات الطبقة العاملة، وباندلاع الحرب العالمية الأولى اهتز المجتمع البشري هزة عنيفة أشاعت الشك في موروث العقائد وزعزعت القيم، وانتقل مركز الثقل في السيادة إلى الطبقات الشعبية التي رأت في المذهب الاشتراكي وسيلة لتحقيق المساواة بين الأفراد في مجتمع بدون طبقات.
ولكن ما هي المصادر الفكرية والفلسفية للمذهب الاشتراكي؟ (المبحث الأول) وما هي انعكاساته وآثاره على دساتير الدول وقوانينها (المبحث الثاني) وما هي حدود هذا المذهب (المبحث الثالث) في تصوره للحقوق و الحريات .
المبحث الأول: المصادر الفكرية والفلسفية للمذهب الاشتراكي
تنقسم هذه المصادر إلى نوعين أساسيين، حيث مر الفكر الاشتراكي من المرحلة المثالية والتي أسس لها كل من كونفوشيوس و أفلاطون وتوماس مور –(المطلب الأول)- أما المرحلة الثانية فتميزت بالتفكير العلمي المادي والتي جسدها كلا من كارل ماركس وإنجلز ولينين (المطلب الثاني).
المطلب الأول: الفكر الاشتراكي المثالي
برزت الاشتراكية في صورتها الأولى في مجموعة من الأفكار ظهرت في الصين القديمة على لسان كونفوشيوس في القرن 5 قبل الميلاد (أولا) كما نادى بها آفلاطون في كتابه الجمهورية (ثانيا) وظهرت في كتاب توماس مور تحث عنوان "يوتوبيا (ثالثا).
أولا: كونفوشيوس (551 ق.م 479 ق.م):
يرى كونفوشيوس أن الفرد يستمد مكانته في المجتمع على أساسا قيه وليس على أساسا نسبه واعتراف للفرد بإمكانية الانتقال من طبقة اجتماعية لأخرى. وقرر أن المساواة لا تتحقق إلا بالتعليم الذي به يعي أفراد الشعب حقائق الأمور ويصل كل فرد إلى مركزه الاجتماعي بحسب أخلاقه وقيمه ومستوى تعليمه.
ثانيا: أفلاطون (427 ق.م 347 ق.م):
أما أفلاطون فنادى بإلغاء الملكية الفردية إلغاء تاما، وإزالة الفوارق الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء، وأن يكون تعليم المواطنين موجها نحو تقديم الصالح العام على المصالح الخاصة وضرورة تثقيف الحكام، واعتبر الفضيلة تقوم على المعرفة لا الجهل وفي كتابه "الجمهورية" تصور أفلاطون المدينة الفاضلة القائمة على أساس المبادئ الاشتراكية وعلى رأسها إلغاء الملكية باعتبارها تشكل سبب الانقسامات والخلافات بين الأفراد.
ثالثا: توماس مور: 1480-1535:
عبر" توماس مور" المفكر الانجليزي عن مجموعة من الأفكار الاشتراكية في كتابه "يوتوبيا" من بينها أساسا إلغاء الملكية الفردية والدعوة إلى الملكية الجماعية للأموال، معتبرا الفقر هو سبب كل المصائب والرذائل الاجتماعية، لهذا هاجم توماس مور طبقة النبلاء والسادة في المجتمع الانجليزي معتبرا إياهم أقلية تعيش في رخاء وترف على حساب الأكثرية التي تعيش الفاقة.
وبالرغم من ذلك، فكل هذه التصورات لا تشكل نظرية متماسكة ومترابطة سياسيا واقتصاديا بل هي مجرد أفكار وتصورات مثالية. ومع ظهور أفكار كارل ماركس اتخذت الفكرة الاشتراكية طابعا علميا وأصبحت مذهبا له أسس وقواعد.
المطلب الثاني: الفكر الاشتراكي المادي العلمي
إن المذهب الاشتراكي لم يكتمل تصوره للحقوق والحريات إلا مع الاشتراكية العلمية التي أسست لها كلا من أفكار إنجلز ولينين وكارل ماركس باعتبار الاشتراكية مذهبا علميا ماديا قائما على الاقتصاد والصراع الطبقي ،وفي كل المراحل التي شهدها تطور الفكر الاشتراكي تأثرت الحقوق والحريات بهذا المسار.
1- الحقوق والحريات في مرحلة ديكتاتورية البروليتاريا
فالدولة في هذه المرحلة ضرورية ويقودها العمال والفلاحون والمثقفون بصفقتهم أعضاء في طبقة الكادحين وهي "البروليتاريا"، ولكن هذه المرحلة تكون ديكتاتورية لا مكان فيها للحقوق والحريات لأن الدولة في حالة حرب ضد أعدائها في الداخل كما في الخارج.
إن النظام فيها قائم على الطاعة المطلقة ولا مجال لحرية الرأي ولا للمعارضة فعقيدة الدولة البروليتارية هي عقيدة الشعب ومن يعارض الدول يتم استئصاله.
وفي هذا الصدد يقول "لينين":
«لا يمكن أن تكون هناك حريات حقيقية في مجتمع قائم على أساس سلطة المال التي توجد فيها الطبقات الكادحة في بؤس في حين لا توجد إلا فئة (حففة) طفيلية من الأغنياء».
2- الحقوق والحريات في مرحلة الشيوعية الحقيقية :
في هذه المرحلة تكون أسباب الفوارق قد اختفت من المجتمع ، و الدولة تسعى إلى إنعاش الانتاج و توفيره للجميع و توزيع الثروات على الناس لتحقيق المساواة الفعلية . فالدولة في هذه المرحلة وجودها ضروري و اساسي لاعادة التوازنات الاجتماعية ، فالدولة هي حكومة الشعب للشعب لتحقيق سعادة الجميع في إطار العدالة و المساواة و الحريات .
3- الحقوق والحريات في مرحلة الشيوعية الكاملة :
تعد مرحلة الشيوعية الكاملة المرحلة النهائية حيث تكتمل حلقات النظام الشيوعي ، و تتحقق العدالة المطلقة و المساواة للجميع ، و تكون الفوارق بين الناس قد تلاشت و انمحت ، و يكون الافراد قد وعوا بقيم العيش المشترك و المحافظة على النظام الجديد ، و بناء عليه فلا ضرورة لوجود الدولة كشكل للتنظيم ، و هو ما أعلن عنه كار ماركس بموت الدولة و زوالها .
و لكن ما هي انعكاسات المذهب الاشتراكي على إعلانات الحقوق و الدساتير ؟
المبحث الثاني: انعكاسات المذهب الاشتراكي على إعلانات الحقوق والدساتير
إن إعلانات الحقوق والدساتير الليبرالية تعتبر في نظر مفكري المذهب الاشتراكي غير ذات قيمة، ذلك أن النظام الرأسمالي يعني التناقض الواضح بين إعلانات الحقوق والحريات وبين التطبيق الفعلي والواقعي لها، ولهذا تقدم التجارب الاشتراكية نفسها كبديل في منح الحقوق والحريات، وبناء عليه سنتطرق إلى انعكاسات المذهب الاشتراكي في الاتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية سابقا في ظل دستور سالتين لسنة 1936 (المطلب الأول) ودستور فيمار بألمانيا 1919 ودستور ألمانيا الشرقية 1949 (المطلب الثاني) ودستور جمهورية الصين الشعبية الصادر سنة 1954 (المطلب الثالث).
المطلب الأول: دستور ستالين لسنة 1936
بنجاح الثورة البلشقية في أكتوبر سنة 1917 صدر الإعلان السوفياتي تحت عنوان: «حقوق الشعب العامل والمستغل» سنة 1918.
وما يميز الإعلانات البروليتارية عن الإعلانات البورجوازية هو أن هذه الأخيرة إذا كانت ذات بعد وطني فإن الإعلانات البروليتارية ذات بعد دولي، فهي تعلن حقوقا لكل الشعوب والأمم، وحقوقا للمجموعات لا للأفراد، فهي لا تتعرض للإنسان المجرد للجماعة العاملة داخل الدولة . لقد تلا صدور هذا الاعلان صدور دستور روسيا الاتحادية بتاريخ 10 يونيو 1918 الذي أكد مبادئ الإعلان السابق مشددا على إقامة ديكتاتورية البروليتاريا وإلغاء البورجوازية وتشييد الحكم الاشتراكي ومبادئه، كما نص على مجموعة من الحريات كحرية المعتقد، وحرية التعبير، وحرية التدين وحرية الرأي والتعبير، وحرية إنشاء الجمعيات وحرية التجمعات. وهذه الحريات نجدها جد موسعة في دستور 1936 المعروض بدستور ستالين والذي شهد عدة تعديلات بصدور دستور 1977 إلى غاية دستور الاتحاد الروسي الصادر سنة 1993 مع أخر تعديلاته إلى غاية دستور 2014 الذي ينص في الفصل الثاني منه على الحريات والحقوق الإنسانية والمدنية من المواد 17 إلى 64، كالحق في المساواة أمام القانون والمحاكم والحق في الحياة والكرامة والحق في الحرية والحرمة الشخصية والحياة الخاصة.
المطلب الثاني: دستور جمهورية فيمار بألمانيا 1919 ودستور ألمانيا الشرقية 1949
بانهيار الإمبراطورية الألمانية تم انتخاب جمعية تأسيسية في مدينة "فيمار" لوضع دستور جديد سنة 1919 وهو المعروف بدستور جمهورية "فيمار"، ويتضمن هذا الدستور الأفكار التي كانت تنادي بها الاشتراكية الديمقراطية في ألمانيا كما صدر متأثرا بالأفكار التي نادت بها الثورة الروسية الاشتراكية فبالإضافة إلى الحقوق المدنية والسياسية أعلم عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وأثر مبدأ تدخل الدولة لتفعيل وتنزيل هذه الحقوق والحريات على أرض الواقع وتنظيم الاقتصاد العام على أساس اشتراكي، إلا أن هذه الحقوق لم تطبق تطبيقا حرفيا، إذ سرعان ما انهار دستورفيمار مع صعود النازية للحكم وما جاءت به من أفكار معادية للديمقراطية سنة 1933 و ذلك بعد بعد تولي أدولف هتلر الحكم والذي وضع دستورا استمر العمل به حتى سقوط النازية سنة 1945.
وبتقسيم ألمانيا إلى قسمين : ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية اعتمدت هذه الأخيرة دستور 1949 الذي تم تجديده سنتي 1968 و1974 كما تم اقتباس مجموعة من المبادئ من دستور "فيمار"، لكن هذا الدستور انتهى العمل به منذ انهيار جدار برلين وتوحيد الألمانيين سنة 1990.
المطلب الثالث: دستور جمهورية الصين الشعبية لسنة 1954
بالرغم من أن الثورة الثقافية بالصين اندلعت سنة 1911 و أطاحت بالنظام القديم فإنها لم تعمل على تغيير بنية القوى السياسية المتواجدة تحت النظام السياسي الصيني إلا مع صدور دستور 1954 الذي أسس للصين الجديدة حيث أشار في مقدمة إلى أن «جمهورية الصين الشعبية تعمل بنظام الديكتاتورية الديمقراطية الشعبية، هذا النظام الذي يضمن أن تقضي الصين على الاستغلال والفقر عن طريق المساواة وتبني مجتمع اشتراكي غني ومزدهر» ، والملاحظ ان الدستور الصيني صدر متأثرا بأفكار "فلاديمير لينين" في البيان العام بشأن حقوق العاملين، وبالدستور الروسي لسنة 1918.
وعلى العموم فللصين نظرية خاصة للحقوق يمكن إجمالها فيما يلي:
1- الحقوق شيء تاريخي وليس طبيعي: ذلك أن الظروف التاريخية المختلفة تحمل في طياتها مفاهيم مختلفة للحقوق.
2- الحقوق شيء اجتماعي وليس شخصيا: فالواقع الاجتماعي هو الذي يعطي معنى وقيمة موضوعية للحقوق.
3- الحقوق شيء واقعي وليس عقليا وذهنيا:
إن الحقوق التي لا يستطيع المواطنون التمتع بها داخل دولة ما وتبقى مجرد أفكار نظرية ليست ذات قيمة، أما الحقوق الواقعية فهي الأعمال الحقيقية الملموسة لتفعيل حقوق المواطنين في الحياة الفعلية وترتبط ارتباطا وثيقا بظروفهم الحياتية المادية الواقعية المتاحة.
ولذلك يجب أن يبدأ ضمان الحقوق وتطويرها في الواقع، والتأكيد على أن واقعية الحقوق تتفوق على سمعتها الذهنية.
هذا وبالرغم من أن الأفكار الاشتراكية قد بشرت بالعدالة والحرية والمساواة لكن حين تطبيقها في العديد من التجارب السياسية انحرفت عن أهدافها وانتهكت حقوق الانسان و حرياته ، وهو ما أشر على أزمة الاشتراكية .
المبحث الثالث: حدود المذهب الاشتراكي وأزمته
بالرغم من أن المذهب الاشتراكي حاول التنظير للحقوق والحريات وبالخصوص في الجانب الاجتماعي والاقتصادي والدفاع عن الحقوق والحريات الجماعية إلا أن تطبيق الاشتراكية أظهر المفارقة الصارخة بين النظرية وواقعها وفي هذا الإطار وجهت لها مجموعة من الانتقادات منها:
1- القول بأن المادة أسبق من الفكر لا يستند على برهان علمي.
2- التركيز على الجانب الاقتصادي كمحرك للتاريخ يهمش باقي العوامل السياسية والدينية والثقافية والفكرية.
3- إن الدعوة إلى الثورة واستخدام العنف تتنافى مع الإصلاح التدريجي و بالطرق السلمية حفاظا على استقرار المجتمع وحياة الأفراد وممتلكاتهم التي تكفلها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
4- إن القول بزوال الدولة ستعم الحرية والعدالة المطلقة في مرحلة الشيوعية الكاملة كذبه التاريخ حيث لم تزل الدولة ولكن ما وقع هو تفكك دول المعسكر الشرقي سابقا ابتداء من سنة 1989 وانهياره مع سياسة البريسترويكا التي دشنها ميخائيلل غورباتشوف سنة 1991.
5- بانهيار المعسكر الشرقي ظهر للعالم حجم انتهاكات حقوق الإنسان وحرياته وقمع الأصوات المعارضة وبشاعة الفقر و الاستغلال باسم الايديولوجية الاشتراكية و اوهامها .