ملخص مميز وشامل لمادة الحريات العامة S4

ملخص مميز وشامل لمادة الحريات العامة S4

تحية طيبة لكل طلبة العلوم القانونية عامة و طلبة الفصل الرابع خاصة
اقدم بين أيديكم محاضرات لحقوق الإنسان و الحريات العامة.

محاضرات لحقوق الإنسان و الحريات العامة S4

مقدمة : تعريف الحريات العامة وحقوق الإنسان

تعتبر مادة الحريات العامة وحقوق الإنسان جزء من دراسة القانون العام وتتقاطع وغيرهما من مواد القانون العام والخاص؛ كالقانون الدستوري الذي يحدد الإطار العام للحريات والحقوق، - (الباب الثاني من دستور 2011 الحريات والحقوق الأساسية من الفصول 19 إلى 40) - والقانون الإداري الذي يمنح للمواطنين مجموعة من الرخص
والأذونات الممارسة مجموعة من الحريات والحقوق ، أما في إطار القانون الخاص فيحدد القانون المدني مثلا حقوق الأشخاص المادية والمعنوية، كما يحدد القانون التجاري وينظم حرية المبادرة الخاصة، أما القانون الجنائي والمسطرة الجنائية فيحددان أصول إجراء المحاكمة العادلة وفق احترام مبادئ حقوق الإنسان، أما في إطار قانون الشغل فتظهر حقوق العمال في مواجهة أصحاب الرأسمال في الحق في الإضراب و التمتع بالحريات والحقوق النقابية.
ولكن هل هذا الترابط مع باقي فروع القانون ينفي استقلاليتها؟
في الواقع كانت مادة الحريات العامة لم تصبح مادة مستقلة بذاتها في فرنسا إلا مع الإصلاح التعليمي لعام 1962، ومع ذلك فإن الكتابات التي صدرت في ذلك العهد والسنوات اللاحقة إلى الآن مازالت تخلط بين مفهوم الحريات العامة وحقوق الإنسان وكأنهما وجهان لعملة واحدة.
  • فما معنى الحريات العامة ؟
  • وهل الحريات العامة مرادفة لحقوق الإنسان ؟

تمهيد :

إن دراسة الحريات العامة وحقوق الإنسان ومحاولة البحث عن نطاق التماس بينهما سيدفعنا إلى الوقوف على الأصول التاريخية والدينية والفلسفية لمسارات تطور الحقوق والحريات مركزين بالخصوص على المذهبين الليبرالي - الفردي – ( الفصل الأول ) – والاشتراكي – ( الفصل الثاني ) - .

الحريات العامة و حقوق الإنسان  في المذهب  الليببرالي - الفردي      

يعد الفرد في هذا المذهب حجر الزاوية في النظام الجماعي فهو غاية هذا النظام وهو قوته المحركة، وتدور الأسس الفلسفية لهذا المذهب حوله بتمجيده و اعتباره محور النظام السياسي و الاجتماعي ومن  تم يجب أن تترك جميع أوجه النشاط  للفرد  فهو أعلم بمصالحه و له القدرة على معرفة أحسن الوسائل لتحقيق هذه المصالح وليس على الدولة إلا واجبا واحد هو أن تكفل له الحماية و الأمن و أن تقيم له النظام ، ولكن ما هي المصادر الفكرية للمذهب الليبرالي - الفردي ؟ (المبحث الأول ) و ما مدلول الحريات العامة في إطاره؟   ( المبحث الثاني ) وما هي انعكاسات المذهب الليبرالي - الفردي  على الإعلانات    و المواثيق الدولية ؟ (المبحث الثالث ) و ما هي حدوده؟   ( المبحث الرابع ) .

المبحث الأول: المصادر الدينية و الفكرية  

          يستمد المذهب الليبرالي - الفردي  فلسفته من الفكر المسيحي     ( المطلب الأول ) و مدرسة القانون الطبيعي ( المطلب الثاني ) و نظرية العقد الاجتماعي ( المطلب الثالث )

المطلب الأول: الفكر المسيحي

حين نادى السيد المسيح بفكرة العدالة  المطلقة  و الإخاء في الله بين جميع الناس أحدث ثورة كاملة في قواعد السياسة و الاجتماع و عزل بذلك الفرد الإنسان عن الفرد المواطن و هو ما كانت تنكره الأنظمة السياسية القديمة  ومن هذا  المنطلق بدأت البشرية حركتها الكبرى لتحرير الدين من السلطة السياسية  و لتأكيد حرية الفكر و حرية العقيدة .

فالفكر المسيحي رفض الفكرة الرومانية القائلة بأن الدين خاضع للدولة و رأت في عبادة الإمبراطور نوعا من الشرك  و عبادة الأصنام  و لذلك أمرت أتباعها بأن يرفضوا هذه الشعائر فإذا كان الروماني القديم ينظر إلى الدين على انه جزء من كيان الدولة أخذ الرجل المسيحي ينظر إلى الدين على أنه شيء مستقل عن المجتمع الإنساني و أسمى منه .

  و بذلك يكون الفكر المسيحي قد أكد ضرورة الفصل بين السلطة الدينية و السلطة السياسية وحرر بذلك الفرد من عقيدة الحاكم و ديانة الدولة و أخرجه من عبادة الفرد إلى عبادة الله .

إلا أن هذا الانتقال لم يكن  هينا و يسيرا فقد بقيت الإمبراطورية الرومانية تقاوم انهيارها الديني خشية الانتقاص من نفوذها و فتحت باب الصراع مع الكنيسة  و تحملت المسيحية  ألوانا من التنكيل و العذاب و الاضطهاد و لكنها انتصرت في النهاية  بدعوة السيد المسيح حين قال :  " اعط ما لقيصر لقيصر و ما لله لله " .

 وبتطهير الدين من سطوة السياسة حققت المسيحية مبدأها  في حرية العقيدة و الإيمان و أكدت  نزعتها الفردية حين جعلت غايتها انقاد الفرد من الخطايا و حثه على السعي إلى الله  و حين جعلت و سيلتها إلى تحقيق هذه الغايات الإيمــــان باللــــــــــــــــه و الخير و بالفضيلة  و هي بذلك تمجد الفرد  و تطهره  من الخطايا و تحرره من العبودية  وذلك عبر إعمال فكره  لتقرير مصيره بنفسه  فهو  وحده صاحب الإرادة و يجب أن يعرف الحقيقة و يصل إليها بالإيمان .

ويؤكد الفكر المسيحي نزعته الفردية حين ينظر إلى الجماعات المختلفة من أسرة و كنيسة و دولة على أنها ليست غاية في ذاتها و إنما هي مجرد وسائل لتحقيق غاية  عليا تحكمها و تسيطر عليها وهي إسعاد الفرد  و تحقيق أكبر قسط من الخير له .

غير أن هذه النزعة الفردية التي أكدتها تعاليم المسيحية سرعان ما انكمشت أمام استبداد رجال الدين حتى أصبحت مجرد فكرة يناقضها الواقع .

  فإذا كانت الديانة الجديدة قد حررت العقيدة من تحكم السلطة السياسية فهي قد أوقعت الفرد في قبضة رجال السلطة الدينية.

  فأمام تنامي سلطة الكنيسة  و إخضاع السلطة السياسية لها  بحيث لم يكن بمقدور الحاكم تولي العرش إلا بعد المرور بمجموعة من الطقوس يقوم بها رهبان الكنيسة ثم لا يعلن توليه العرش رسميا  إلا بعد أن يقوم البابا  بتتويجه  و هو ما عرف في أوربا تحث اسم " تعميد الملوك " مما يبعني أن الكنيسة هي التي اختارت الحاكم و هي التي منحته حكم الرعايا و تحث إشرافها الأمر الذي فتح للكنيسة عهدا جديدا عنوانه التحكم     و الاستبداد لم يعد ير فيه الفرد شيئا من حرية أو حق .

          ونظرا لجشع رجال الدين بدؤوا في بيع " صكوك الغفران " ومعناه أن الكنيسة هي التي تغفر للتائب خطاياه مقابل مبلغ من المال بالإضافة إلى توليها توقيع  "عقوبة الحرمان"و التي يترتب عليها طرد الفرد من المجتمع المسيحي بحيث لا يسمح له الاختلاط أو التعامل مع زوجته  و أولاده  و يصبح منبوذا من طرف الجميع  وقد استعملت البابوية هذا السلاح ضد  " هنري الرابع "  و " فريد يريك الأول و"الثاني".

     كما تجلى استبداد الكنيسة و تسلطها في إطار ما عرف  بأوربا بمحاكم التفتيش و كان   " قانون تيودسيوس "  أول قانون حمل اسم " مفتش الإيمان " أو رجال محاكم التفتيش و به  بدأ الإعدام في عهد المسيحية  و قد أنشئت أول المحاكم في فرنسا على يد  "البابا غريغوري التاسع " على عهد ملك  فرنسا لويس التاسع  و سميت  بديوان التحقيق         و بمقتضاه منح للمفتشين من رجال الكنيسة سلطات واسعة ، كما شهدت  إسبانيا نفس المحاكم التفتيش و لكن لتصفية  مات بقى من المسلمين في قشتالة و اشبيلية و غرناطة   .

   و أمام انحراف الكنيسة و رجالها عن تعاليم المسيحية  و أمام كل هذا الاستبداد و التسلط و الجشع ظهرت  " حركة الإصلاح الديني "  تزعمها دعاة المذهب البروتستانتي  و على رأسهم  " مارتن لوتر " في ألمانيا  و " كلفن " في فرنسا  من اجل إصلاح ما وصلت إليه الكنيسة من انحطاط .

   ناضل فمارتن لوتر مابين 1483 -  1546 ضد تعاليم البابوية و الكنيسة الكاثوليكية  والتي   كان يطلق عليها  " تعاليم الشيطان " وحارب " صكوك الغفران "     و " عقيدة التثليث "كما حارب سلطة البابا و جعل السلطة الوحيدة في المسيحية هي الاحتكام إلى الكتاب المقدس  وقد ذهب  " لوتر " إلى القول بأن الفرد يوجد لذاته و يفكر لنفسه و يعلم مصلحته و يؤمن بخيره  و دافع عن و جهة نظر خالف بها رأي البابوية     و المتزمتين في العالم المسيحي بأسره وذلك بقوله أن العقل هو الحكم في الأمور المتعلقة بالعقائد من ناحية توافر الإيمان من عدمه و أن الإنسان حر في أن يؤمن أو لا يؤمن .    اتفق مع " لوتر " في كون " الإنجيل " يعد المصدر الوحيد (1564– 1509 ) و" كلفن"   للمسيحية دون تفسيراته و أن عقيدة التثليث لا تقبلها المسيحية.

وكان من نتائج  " حركة الإصلاح الديني " أن انفصلت الكنائس في كل من فرنسا و انجلترا عن كنيسة روما المركزية  بل ظهرت حركات تدعوا إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة في إطار " العلمانية  " .

 ومع مطلع القرن الثامن عشر شهدت الإنسانية مولد فكر جديد يدعو إلى إعطاء حريات أوسع للفرد و الثقة في قدراته و أنه مركز النظام و غايته بناء على الحقوق الطبيعية النابعة من القانون الطبيعي .

المطلب الثاني: مدرسة القانون الطبيعي

فكرة القانون الطبيعي فكرة عريقة في القدم لأن الفلاسفة  و رجال القانون  توصلوا عبر الحقب و العصور بأن القانون لا ينحصر في " القانون الوضعي " الذي سنه البشر و إنما يوجد قانون أعلى منه قانون ثابت أبدي لا يتغير يصلح لكل زمان و لكل مكان هذا القانون العقلي المطلق يصدر عن طبيعة الأشياء وهو ما يطلق عليه اسم " القانون الطبيعي " .

و إذا كانت فكرة " القانون الطبيعي " قد وجدت صدى لها في الفلسفة اليونانية  مع سقراط و أفلاطون  وفي الفقه الروماني عند " شيشرون "  و"غايوس" كما عرفت في القرون الوسطى و تطورت في عصر النهضة الأوربية في ظل فلسفة الأنوار إلى فلسفة للدفاع عن الفرد ضد الاستبداد و الطغيان . ففي اليونان كان سقراط  يرى بأن القوانين التي يلتزم بها  المواطن الصالح ليست هي ما تضعه المدينة من أوامر فحسب بل كذلك القوانين العليا غير المكتوبة التي لا يرجع مصدرها للبشر و التي هي خيرة بطبيعتها لأنها تحقق فكرة العدل باعتباره مقياسا للفضيلة ،  وهو الأمر الذي أدى بسقراط إلى المقصلة  و خضوعه لحكم القانون برضاه و رفضه لفكرة الفرار من مصيره .وعند الرومان كان " شيشرون " يرى بأن القانون الطبيعي هو القانون الثابت و الخالد الموافق للعقل السليم و للطبيعة  يطبق على كافة الناس و لا يتغير عبر الزمان و المكان و لا يستطيع مجلس الشيوخ و لا الشعب مخالفته تأسيسا على كون القانون الطبيعي يحقق العدالة  و الدولة ملزمة  بمطابقة و تكييف  قوانينها الوضعية معه حتى تحقق الفضيلة .

وفي القرون الوسطى اعتبر " القديس توما الاكويني " أن القانون الطبيعي جزء لا يتجزأ من نظام الحكم الإلهي الذي يسيطر على كل شيء في الأرض و السماء  و أنه نور من حكمة الله يحكم و ينظم العلاقات بين جميع المخلوقات ",

و الخلاصة أن مدرسة القانون الطبيعي سيطرت على جميع اتجاهات الفكر الإنساني في هذه الحقبة التاريخية و آمن رجال القانون و السياسة  بفكرة الحقوق الطبيعية التي تولد مع الإنسان و تسبق الجماعة و تعلو على الدولة  فالطبيعة خلقت  الناس أحرارا متساوين فهي لم تخلق نوعين امن البشر بعضهم سادة  و بعضهم عبيد  ومن تم  يهدف القانون الطبيعي إلى حماية الحرية و إقرار المساواة بين الناس و أن يعمل على تأكيد عدم خضوع الفرد   لحكم  " الآخر "  لأن ذلك من الأصول الطبيعية التي ترجع إلى ذات الفرد .

و امتدت أفكار هده المدرسة إلى رجال الاقتصاد السياسي و بالخصوص المدرسة الحرة في الاقتصاد  إذ  ما دام الإنسان هو غاية النظام الجماعي الذي يهدف إلى خيره و إسعاده  فان الفرد هو أقدر الناس على معرفة مصالحه  ومن تم وجب على الدولة عدم التدخل في الاقتصاد  و أن تترك للأفراد الحرية في العمل و التنقل  ومن هنا كان المبدأ الليبرالي القائل " اتركه يمر اتركه يعمل "    و ظهر هذا الاتجاه الجديد في الاقتصاد المبني على كون القوانين الطبيعية هي التي تحرك عجلة الاقتصاد  وان كل فرد و هو يحقق مصلحته الخاصة تتحقق تلقائيا المصلحة العامة للجميع فمن مجموع  المصالح الفردية يتحقق الصالح العام وكان يتزعم هذه المدرسة مجموعة من  المفكرين من بينهم  "فرانسوا  كينييه " و "ادم سميت "  صاحب كتاب " بحث في طبيعة  و أسباب ثروة الأمم "- (اليد الخفية).

ومن المصادر الفكرية للمذهب الفردي كذلك نظرية العقد الاجتماعي القائمة على فكرة مفادها أن الأفراد قد أبرموا بينهم عقدا اجتماعيا للانتقال من العيش في الحالة الطبيعية إلى العيش في المجتمع المدني في إطار الدولة كشكل أرقى .

ولكن ما مصير الحرية في مسارات هذا الانتقال ؟

المطلب الثالث :  نظرية العقد الاجتماعي

إذا كان الفكر المسيحي قد حرر الفرد من سلطة الحاكم المستبد باسم الدين خلصه من قبضة  رجال الكنيسة  و طغيانهم  و إذا كان القانون الطبيعي قد اقر للفرد  حقوقا و حريات سابقة للدولة و متعالية عنها  فان نظرية العقد الاجتماعي اعترفت للفرد بحرية الإرادة و الاختيار إما العيش في إطار المجتمع المدني و الحفاظ  على حياته  و حرياته في امن و طمأنينة و إما العيش في إطار الفوضى  وتعريض حياته و حرياته للخطر في الحالة الطبيعية البدائية المتسمة  بقانون الغاب و حكم القوة  وعليه فان الفرد الحر العاقل صاحب الإرادة  يختار التعاقد مع غيره  للحفاظ  على أمنه و حياته و حرياته .

وبذلك تغيرت الفكرة الموروثة عن نظرية الحق الإلهي وأصبحت الدولة تقوم على أساس نظرية العقد الاجتماعي باعتباره الوسيلة التي أنهى بها الأفراد حياتهم الفطرية و ارتضوا حياة النظام السياسي .

وعلى هذا الأساس من التعاقد لم تعد السيادة في الدولة  للملك كنتيجة للقوة أو التفويض الإلهي  بل آلت  السيادة  إلى الحاكم برضا و تراضي الجماعة  عن تبصر و إرادة  للعيش في إطار الدولة وفقا لما  قررته بنود العقد الاجتماعي .

ونظرية العقد الاجتماعي تصعد إلى تاريخ المدن اليونانية و الرومانية القديمة فقد قال بها  " شيشرون " حين ذهب في تعريفه للدولة على أنها صورة من الشركات  أي أنها جماعة تتولد من مصدر تعاقدي  وتفترض أن الأفراد  قد تنازلوا عن بعض حرياتهم البدائية  و بإرادتهم مقابل الحياة الجماعية.وعرفت الفكرة في القرون الوسطى  و لكنها اتخذت مدلولا  آخر في صورة الولاء  و الخضوع لسيد الاقطاع -  (Contrat de soumission)   

 ثم تداولها  "الكاثوليك" و "البروتستانت" في القرن السادس عشر فرددوا فكرة " العقد الرضائي " الذي يتبادل فيه الشعب و الأمير الالتزامات طبقا لشروط و أحكام خاصة بحيث إذا ما أخل أحدهما  بالتزاماته  جاز للطرف الآخر حق فسخ العقد . و ظهرت فكرة العقد الاجتماعي من جديد في القرن الثامن عشر في كل من فرنسا  و انجلترا و إذا كان المنظرين لها قد اتفقوا حول مرجعية الفكرة  فان النتائج كانت مختلفة  فبالرغم من اعتبارهم أن العقد الاجتماعي قائم على إرادة الفرد الحر فان النتائج السياسية جاءت متباينة  حيث انتهى البعض إلى الدعوة  للديمقراطية و السيادة الشعبية بينما مجد البعض الآخر السلطة المطلقة و الاستبداد.

هكذا ذهب " توماس هوبز " إلى أن السيادة الشعبية قابلة للتصرف بطبيعتها أن الأفراد حين اختاروا حياة الجماعة  قد تنازلوا في العقد الاجتماعي  و بمحض إرادتهم  الحرة عن جميع حقوقهم  و حرياتهم و مظاهر سيادتهم للأمير الذي ليس طرفا في العقد ومن تم كان له ان يباشر جميع مظاهر هذه السيادة  و بصورة مطلقة  دون مراقبة أو مسؤولية .

بينما ذهب " جون لوك " خلاف  ذلك، حيث اعتبر السيادة الشعبية ليست قابلة للتصرف فيها أو التنازل عنها  وعليه فان العقد الذي تم بين الشعب و الأمير  بهدف  الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية  لم ينقل هذه السيادة إلى الحاكم       و إنما اقتصر على تفويض بمباشرة هذه السيادة و ممارستها بسم الشعب و لحسابه و هو ملزم في سلطاته و قراراته  ببنود العقد و شروطه فسلطاته ليست مطلقة بل مقيدة  ببنود العقد و إن تجاوزها جاز للشعب فسخ العقد و إعلان العصيان  و التمرد لأن الشعب لم يتنازل عن حرياته و إرادته و إنما فوض ذلك للحاكم لحمايته  و التصرف  في السيادة و فق القانون ,

فالحرية مكفولة و الحاكم يسهر على تطبيق القوانين و إقرار العدالة      و الأمن و أن يقف دور الدولة عند تنظيم علاقات الأفراد بما يكفل التوافق  و  للأفراد حرية التملك و حرية العمل و حرية التعاقد .

بيد أن  " جان  جاك روسو " كان تصوره  للعقد الاجتماعي مخالفا لكل من توماس هوبز و جون لوك  فهو لا يعترف بفكرة  التنازل عن الإرادة الشعبية  للفرد الحاكم  و لكن يعتبر أن  الجميع تنازل عن إرادته لصالح الجميع  و بان حكم الجماعة هو الأقرب للصواب  و للعقل  فالحاكم الفرد مهما كان فهو مستبد عكس حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب  فهو النظام الديمقراطي حيث التنازل للإرادة العامة و حيث الحرية السياسية في أوسع صورها و حيث كل الأفراد يشاركون في السلطة و الديمقراطية هنا مباشرة  .

إذا كان المذهب الليبرالي - الفردي  قد اعتبر الفرد حجر الزاوية في الدولة واعتبر هذه الأخيرة في خدمته فما انعكاسات هذه الفلسفة الفردية على إعلانات الحقوق  و الوثائق الدستورية ؟

المبحث الثاني : انعكاسات المذهب الليبرالي - الفردي  على إعلانات الحقوق و الوثائق الدستورية

    لقد كان للمذهب الفردي  صدى و أثارا  على  مجموعة من إعلانات الحقوق و الوثائق الدستورية  التي تبنت الفلسفة الفردية منهجا وخطا في منح الحريات العامة لأفرادها سواء في انجلترا  ( المطلب الأول ) ا و أمريكا           ( المطلب الثاني ) و فرنسا ( المطلب الثالث ).

المطلب الأول:  صدى المذهب الليبرالي - الفردي  في إعلانات الحقوق الانجليزية
  النظام السياسي الانجليزي لم  يأخذ  بالحكم المقيد إلا بعد تطور بطيء استغرق عدة     قرون  وذلك عبر صدور مجموعة من الوثائق المكتوبة تضمنت مجموعة من الحقوق الأساسية  واهم هذه الوثائق و الإعلانات  وثيقة العهد الأعظم ( الفرع الأول ) و ملتمس الحقوق   ( الفرع الثاني )   و قانون" الهابياس كوربوس " (الفرع الثالث ) و قانون الحقوق  ( الفرع الرابع )

 (1215الفرع الأول : وثيقة العهد الأعظم أو " الماجناكارتا
           في الحقيقة ليست وثيقة  " الماجناكارتا " أولى الوثائق التي اعترفت فيها انجلترا للأفراد بالحريات العامة  " بل هناك و وثيقة صادرة سنة 1101   عن " هنري الأول "  تحت اسم     " وثيقة الحرية " إلا أن شهرة وثيقة العهد الأعظم غطت عن هذه الوثيقة التاريخية.   
             و وثيقة " الماجناكارتا " هي التي انتزعها "البارونات " و" الأساقفة" من الملك   " جان بلا ارض "  و قد جمعت الكثير من الضمانات للحرية الشخصية و تقريرها لبعض الضوابط التي تحد من السلطة الحاكمة .
(1628الفرع الثاني : ملتمس الحقوق
         هذه الوثيقة عبارة عن التماس قدم للملك  " شارل الأول "  الذي اضطلع على  مضمونه      و أدرك معناه  و وافق البرلمان عليه و استجاب الملك لملتمس البرلمان بالموافقة  عليه و بمنح الشعب الانجليزي مجموعة من  الحقوق و الحريات العامة و الضمانات القانونية لممارستها  كحق الملكية و الحرية الشخصية  و عدم تطبيق القوانين العسكرية على المدنيين                                           
(1679الفرع الثالث   :  قانون " الهابياس كوربوس " (
           صدر هذا القانون لحماية الفرد من إلقاء القبض عليه دون سند قانوني  و ذلك على عهد الملك " شارل الثاني   " و اعتبر منذ ذلك الحين ضمانة للأفراد   من الاعتقال التعسفي   فهو عبارة عن أمر يصدره احد قضاة المحكمة  العليا إلى مدير السجن ا والى أية جهة يتواجد فيها شخص مسلوب الحرية  بإحضاره  أمام المحكمة خلال اجل يتراوح  ما بين  ثلاثة أيام إلى عشرين يوما و أن يبين سبب تقييد حريته  حتى تتمكن المحكمة من النظر في قضيته  ويترتب على عدم الاستجابة للأمر القضائي  تطبيق غرامة مالية  جد مرتفعة على من يحتجز فردا دون سند قانوني.
(1688الفرع الرابع :    قانون الحقوق
       ظهر هذا القانون عقب الثورة التي أطاحت  بآخر حكام " آل ستيوارت " الذي  كان يحكم بناء على نظرية الحق الإلهي المقدس للملوك و استبد بالرعية  ناكرا  حقوقها و حرياتها  بذريعة انه منصب من الله مباشرة .
         وبمقتضى قانون الحقوق  استعاد الانجليز حقوقهم و حرياتهم بعد أن اقر القانون من طرف البرلمان  بعد وفاة " الملك جيمس الثاني " الذي كان قد تنازل عن العرش  و وافق عليه    " وليام اورانج " و بذلك تم إعلان بداية عهد الملكية المقيدة  بانجلترا ونهاية الملكية المطلقة .

المطلب الثاني:   اثر المذهب الليبرالي - الفردي  في الإعلانات و الدساتير الأمريكية
               إن ما يعرف اليوم بالولايات المتحدة الأمريكية كانت  عبارة عن مستعمرات انجليزية تمتد من حدود كندا الخاضعة للاستعمار الفرنسي إلى أقصى جنوب قارة أمريكا الشمالية أي الحدود المكسيكية  و قد كانت المستعمرات الانجليزية تدار عبر حكم ذاتي  لكن ابتداء من سنة  1776 إلى غاية  1791  عرفت هذه المستعمرات البالغ عددها ثلاثة عشر موجة من  الإعلانات الخاصة بالحرية و الاستقلال عن التاج البريطاني وهي و وثيقة إعلان استقلال المستعمرات ( الفرع الأول ) و وثيقة فيرجينيا للحقوق  ( الفرع الثاني ) و دستور الولايات المتحدة الأمريكية ( الفرع الثالث ).

الفرع الأول    :     وثيقة استقلال المستعمرات
                                  أو "وثيقة فيلا دلفينا"  (  1776 )
          صدرت هذه الوثيقة معلنة استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن التاج البريطاني و بان للولايات المستقلة كامل الحرية في العيش باستقلال و حرية بعيدا عن أي تحكم بريطاني  وان كل ولاية أصبحت دولة حرة و مستقلة 
ومن بين ما ورد في  وثيقة " استقلال فيلادلفيا " هو  " أن الاحترام الصحيح لرأي الإنسان يتطلب من هذا الشعب أن يعلن الأسباب التي حملته على هذا الانفصال  هذه الحقائق في نظرنا حقائق بديهية  بذاتها وهي أن جميع الناس يولدون متساوين  و أن خالقهم منحهم حقوقا ثابتة  ومنها حق الحياة  و الحرية  و السعي  و راء السعادة     و أن الناس يقيمون الحكومات  التي تستمد سلطتها من رضا المحكومين و موافقتهم ".

(1776الفرع الثاني :       وثيقة " فيرجينيا" للحقوق (
                    تعد ولاية فيرجينيا من أوائل الدول التي أصدرت إعلانا للحقوق  تحت اسم قانون الحقوق ومن بين ما ينص عليه في المادة الأولى  من أصل ستة عشر مادة أن " جميع الناس خلقوا أحرارا متساوين و مستقلين  و لهم حقوق موروثة لا يجوز لهم عند دخولهم في حياة المجتمع  أن يتفقوا على حرمان خلفائهم منها و هذه الحقوق هي الحق في التمتع بالحياة و الحرية عن طريق اكتساب و حيازة الأموال و بالسعي وراء الحرية و الأمان  و الحصول عليهما .

(1789الفرع الثالث   :      الدستور الاتحادي الأمريكي  (

            لما كان هاجس واضعي الدستور هو إيجاد صيغة توفيقية بين الحاجة الملحة  إلى خلق دولة اتحادية  و بين رغبات الدول في الحفاظ على استقلالها و شخصيتها المتميزة  و لهذا السبب لم ينص الدستور الاتحادي على إعلان للحقوق .
ولكن بمجرد نزول الدستور إلى مرحلة التطبيق شعرت الولايات المكونة للاتحاد بأنه من اللازم  تضمين الدستور نصوصا تحمي الحريات العامة  و حقوق الأفراد  و تحمي في نفس الوقت حقوق الولايات في مواجهة الدولة الاتحادية  الأمر الذي استوجب  إعادة النظر في الوثيقة الدستورية  عدة مرات بلغت  ستة و عشرين تعديلا  امتدت  على مدة ثلاثة سنوات  تلتها تعديلات أخرى طيلة القرنين التاسع عشر و العشرين همت توسيع مجال الحريات العامة .

المطلب الثالث:   انعكاسات المذهب الليبرالي - الفردي على إعلانات الحقوق الفرنسية
  
يعتبر " إعلان حقوق الإنسان و المواطن "  الصادر إبان الثورة الفرنسية سنة  1789  وثيقة         أساسية  و مرجعية للحريات العامة و تعبيرا صادقا و أمينا عن فلسفة المذهب الليبرالي - الفردي   فالإعلان يمجد الفرد ضدا على النظام الملكي المطلق الذي حكم  فرنسا طيلة القرون الوسطي و عهد ما قبل الثورة الفرنسية  أليس الملك " لويس الرابع عشر " هو القائل " أنا  الدولة".
            لذا لما اندلعت الثورة الفرنسية اقتلعت النظام القديم واتخذت من مبادئ الحرية و المساواة و الأخوة  شعارا  لها .
   و هكذا أقام رجال الثورة مجتمع المساواة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و لهذا أكد إعلان حقوق الإنسان و المواطن على الحقوق الأساسية التي يتمتع بها الإنسان بحكم طبيعته و أدميته ومما جاء في مقدمة الإعلان :
       " إن ممثلي الشعب الفرنسي مجتمعين في جمعية  وطنية لما كانوا يعتبرون الجهل بحقوق الإنسان أو تناسيها  أو ازدراءها هي وحدها أسباب الشقاء العام و فساد الحكومات  فقد عقدوا العزم على سرد حقوق الإنسان الطبيعية  المقدسة  و التي لا يمكن التنازل عنها- - - - الناس يولدون و يظلون  أحرارا متساوين في الحقوق  و لا يجوز أن توجد فوارق  اجتماعية  إلا وفقا للمنفعة العامة  ......." و " هدف كل تجمع سياسي هو المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية الدائمة  هذه الحقوق هي الحرية و الملكية  و الأمن و مقاومة الاضطهاد "
هذه بعض الحقوق و الحريات العامة التي وردت في إعلان حقوق الإنسان و المواطن و التي يتجلى من خلالها صدى المذهب الليبرالي - الفردي  واضحا .
       ولكن هل الإعجاب بالمذهب الليبرالي - الفردي   و تقديسه للحرية و للمبادرة الفردية  لم تكن فيه تعاسة الإنسان الفرد عبر استغلال الإنسان لأخيه الإنسان تحت ذريعة الحرية  و المبادرة و الجشع في تكوين رأس المال ؟ 
الم يشهد هذا المذهب تراجعا عن مبادئه  من عدالة ومساواة و أخوة
  الم تصبح الليبرالية المتوحشة أداة لطحن المقهورين و الذين لا يملكون سوى قوة عضلاتهم ؟
  الم يستغل الرأسماليون  جو الحرية  لاستعباد الناس ؟
 و هل تراجع المذهب الليبرالي - الفردي  أمام طوبى المذهب الاشتراكي الذي نادى بتحرير الإنسان من نير عبودية واستغلال المذهب الليبرالي - الفردي  و شعاراته الخادعة ؟

المبحث الثالث:  أزمة المذهب الليبرالي - الفردي 
تحت ضغط الانتقادات الاشتراكية

     إذا كانت تعاليم المذهب الليبرالي - الفردي  قد قامت على أساس تقديس الفرد و تأكيد حقوقه الطبيعية   و كفالة حرياته  و ضمان المساواة بين الجميع أمام القانون  و إذا كانت  كل هذه التعاليم قد دفعت حركات التحرير في أوربا إلى التخلص من الماضي الثقيل بأهواله و حكمه الاستبدادي  فانه لم  يسلم منذ تاريخ قيامه و انتشاره من النقد و الاتهام  حيث وجهت الانتقادات لأسسه الفلسفية - (المطلب الأول ) - وكان لازمته كذلك صدى و آثارا على الحريات العامة  - (المطلب الثاني ) – .

المطلب الأول:  مظاهر أزمة المذهب الليبرالي - الفردي 
       المذهب الليبرالي - الفردي  الذي انتشرت تعاليمه الفلسفية و السياسية و الاقتصادية و القانونية  انتشارا واسعا وكان له تأثير في الكثير من الإعلانات و الوثائق الدستورية سواء الانجليزية أو الأمريكية أو الفرنسية  ما فتئ أن تعرض للهجوم على أسسه الفلسفية و نقد أفكاره (الفرع الأول )فهو  و إن دفع إلى التخلص من موروثات الماضي القائمة على التحكم و الاستبداد فانه على الرغم من ذلك كان هدفا لهجوم شديد من حيث افتقاده  للأساس العلمي المقبول كما انه عاجز على أن يحقق ضمانة أكيدة للأفراد الذين يهدف إلى خيرهم ( الفرع الثاني 

الفرع الأول:        رفض الأسس الفلسفية للمذهب الفردي 

                 سبق أن تمت الإشارة إلى كون  القانون الطبيعي أو الحقوق الطبيعية  تعد من المصادر الفكرية للمذهب الفردي  وتنبني على كون الفرد في حياة عزلته البدائية كان يتمتع بحقوق شخصية و حريات ذاتية ترجع إلى طبيعته الإنسانية  تولد معه و تلتصق به و يسعى هو إلى  تحقيقها و نمائها ومن تم فان انتقال الفرد من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية عبر العقد الاجتماعي الذي ابرمه مع غيره من الأفراد لم يتم إلا لصون هذه الحقوق و الحريات  وبناء عليه فان دور الدولة وجب أن ينحصر ووفقا لمقتضيات القانون الطبيعي في  السهر على الفرد و إقرار العدالة و الدفاع على أن تترك للفرد مطلق حرياته اللازمة  لتحقيق مصالحه . ويذهب المعارضون إلى أن هذا الأساس الفلسفي للحقوق الفردية و الحريات لا يمكن أن يعتبر إلا خيالا و تصورا ذهنيا لا يستند إلى شيء من التاريخ الإنساني و لا يقوم على أسس ثابتة من الحقيقة و الواقع.
           فبالرجوع إلى التجربة و التحليل و منطق الواقع العلمي السليم سنقف على طبيعة الإنسان العلمية و حقيقة تكوينه النفسي و الاجتماعي و يتأكد لنا فساد المذهب الليبرالي - الفردي  انطلاقا من هذا الأساس الفلسفي فالإنسان بطبيعته لا يمكنه أن يعيش في عزلة  انه في مسيرة تاريخه  لم يثبت علميا أن وجد إنسان عاش وحيدا منفردا عن بني جنسه من البشر فالإنسان اجتماعي بطبعه وميال إلى العيش مع غيره  من الناس و به غريزة الجماعة . 
        وإذا كانت هذه هي حقيقة الإنسان الاجتماعية  العلمية  فان نظرية الحقوق الطبيعية لن تكون إلا ضربا من ضروب الخيال و تصورا ذهنيا فالفرد لا يوجد إلا بالجماعة ولا كيان له إلا بها هذا من حيث الجانب الاجتماعي للفرد.
     أما من ناحية قيمة الحقوق الطبيعية المزعومة فان المذهب الليبرالي - الفردي  يقوم على أساس مغالطة  مكشوفة فلو افترضنا جدلا أن الإنسان الفرد عاش منعزلا  و متمتعا  بحقوقه و حرياته الفطرية أو الطبيعية  فما قيمة الحقوق و الحريات و الفرد يعيش في عزلة عن سواه من الناس   
          إن الحقوق و الحريات قدرات إرادية تأخذ مظهرها الخارجي في علاقات الفرد مع غيره بقصد تأكيد ذاته و إلزام الآخرين باحترام شخصه و ماله و مظاهر نشاطه  فالحقوق    و الحريات ظواهر اجتماعية لا تقوم إلا في إطار العيش في جماعة تثور بين أفرادها  دواعي التمسك بالحقوق و التدافع لحماية الحريات في مواجهة  " الآخر"    .    
      انتقاض آخر يوجهه المعارضون للمذهب الفردي ينبني على كون القانون الطبيعي صالح لكل  الشعوب و في كل العصور يعطي صورة نمطية عن القوانين و يتناقض مع فكرة تحكم القانون باعتباره ظاهرة اجتماعية تعكس صورة المجتمع  .
          كما أن القول بان القانون الطبيعي صالح لكل الشعوب يتنافى و خصوصية كل شعب و ثقافته وعاداته ذلك أن مناط المفاضلة بين القوانين هو مدى لاءمتها و تكيفها مع حياة الأمة و خصوصياتها .

الفرع الثاني:           رفض فكرة المساواة القانونية 

    يقوم هذا الاعتراض على فكرة المساواة القانونية التي يتبناها المذهب الليبرالي - الفردي   في كون كل الناس يولدون متساوين بأنه  طرح افتراضي لا أساس له من الصحة على ارض الواقع  ذلك أن الثابت هو كون أعضاء جماعة ما يختلفون منذ الولادة في الملكات و المواهب و القوى  و من تم فان الادعاء بأنهم يولدون متساوين ليس أكثر من افتراض خيالي لا يستند على سند واقعي أو برهان علمي .
        وبما أن الأفراد داخل مجتمع ما غير متساوين فعليا من حيث القدرات و الملكات و المواهب فانه بالضرورة غير متساوين أمام القانون فالأقوياء سوف لن يزدادوا إلا قوة و الضعفاء سوف لن يزدادوا إلا ضعفا وعليه فان المذهب الليبرالي - الفردي  لا يحقق المساواة القانونية وهو بالتالي لا يحقق مصلحة الأفراد الحقيقية  بل يكرس استغلال طبقة الأقوياء لطبقة الضعفاء و يؤكد  بذلك ازدياد عوامل الاختلاف و عدم المساواة .
    ومن النطقي ألا يعامل جميع الأفراد معاملة واحدة بل يجب تحقيقا للمساواة الفعلية  أن تختلف معاملتهم بحسب ما يفصل بينهم من أسباب الاختلاف  وهو أمر يعجز عن تحقيقه المذهب الليبرالي - الفردي   و تحققه النزعات الاشتراكية حيث  تتدخل الدولة لتنظيم جهود الأفراد بل و لمباشرة بعض أوجه النشاط الاجتماعي و الاقتصادي  حتى تحقق المساواة الفعلية بين مختلف الطبقات الاجتماعية و تضمن التوازن الاجتماعي الحقيقي للأمة .    
      أضف إلى كل هذه الانتقادات أن المذهب الليبرالي - الفردي  في طرحه الكلاسيكي أصبح متجاوزا فنظرية الحرية المطلقة أصبحت غير مستساغة أمام تدخل الدولة لتقنين مجال الحريات العامة حتى لا تتحول ممارستها إلى فوضى الحرية أما الملكية المطلقة في المذهب الليبرالي - الفردي  فهي مقيدة بالضوابط القانونية و للدولة حق نزعها لتحقيق المصلحة العامة متى رأت ذلك ضروريا و هكذا فسائر حقوق الأفراد هي موجودة و معترف بها  إلا أنها ليست امتيازات طبيعية يمتلكها الفرد بحكم آدميته و لكنها إمكانيات تمارس في إطار التضامن و التكافل الاجتماعي .





المطلب الثاني:        صدى الأزمة في نظرية الحريات العامة 

     لقد ظهرت مساوئ المذهب الليبرالي - الفردي  بتنامي النظام الرأسمالي وظهور الليبرالية  المتوحشة كنظام قائم على الاستغلال الفاحش لقدرات  الطبقة العاملة  التي لم ير فيها الرأسماليون إلا آلة لتحريك عجلة الاقتصاد  وهكذا تكاثرت المدن الصناعية بكل من  فرنسا و انجلترا و الولايات المتحدة الأمريكية وتكدس العمال و عائلاتهم الفقيرة في ظروف للعيش اتسمت بالصعوبة .
       و كلما تقدم الزمن بالنظام الحر ازدادت مساوئ الرأسمالية و زادت الفرقة و وضوحا بين الطبقة العاملة و الطبقة الرأسمالية وهو ما دفع بالمذهب الاشتراكي إلى الانتشار باعتباره خير وسيلة لتحقيق المساواة الفعلية بين جميع الأفراد بشكل لا يقوى عليه المذهب الليبرالي - الفردي .  
و  باندلاع الحرب العالمية الأولى اهتز المجتمع البشري هزة عنيفة أحدثت تصدعا في نفوذ البرجوازية  و أشاعت الشك في موروث العقائد و زعزعت العقائد و القيم  و انتقل مركز الثقل في السيادة إلى الطبقات الشعبية  التي رأت في المذهب الاشتراكي و أفكاره المنقذ و المخلص  من ويلات النظام الرأسمالي الحر . 
وكان من شان ذلك أن ظهرت في المجتمع قوى سياسية  جديدة بدأت تستشعر ضرورة سيطرتها على النظام  وهو ما أدى  إلى انهيار المذهب الليبرالي - الفردي  في الكثير من الدول  فانقلب النظام في روسيا  و أصبحت منذ أوائل القرن العشرين حقل التجربة للنظرية الماركسية .
 وهكذا وفي ظل المذهب الاشتراكي أصبح التركيز في المجتمع منصبا على حقوق الجماعات لا الأفراد وعن طريق المشرع و وقعت تعاليم المذهب الليبرالي - الفردي  تحث تأثير الفكر الجديد  و أصابها في فرنسا و انجلترا  و أمريكا الكثير من التقييد و التحديد  حتى أصبحت في صورتها  النهائية لا تختلف كثيرا عن  معنى الوظائف و الاختصاصات  التي يحددها القانون للفرد  و يرخص له بمباشرتها  تحقيقا للخير العام .
             ثم اتسع نطاق تدخل الدولة في النشاط الحر الأفراد و وجدت الدولة نفسها مضطرة إلى الخروج من نطاق الدولة الحارسة التي ينحصر دورها في صيانة الأمن و الدفاع و تحقيق العدالة إلى لعب دور الدولة المتدخلة التي تقدم الخدمات الأساسية  للإفراد كالتعليم و الخدمات الاجتماعية كالصحة  و النقل  إلى غير ذلك من المشاريع اللازمة لحماية الطبقات الفقيرة .
     وبناء عليه حصل تحول في الديمقراطيات السياسية إلى ديمقراطيات اجتماعية و اقتصادية  وتم  الانتقال من الاهتمام بالدفاع عن حريات الأفراد إلى الدفاع عن حرية تأسيس النقابات و الجمعيات  ( الفرع الأول ) ومن القدرة على التصرف الحر  إلى المطالبة بعمل شيء ( الفرع الثاني ) و أصبح الحديث يدور حول الحريات النسبية المقيدة  بدل الحريات المطلقة  ( الفرع الثالث )

الفرع الأول:        من الحريات الفردية إلى الحريات الجماعية 

         لقد تأسس المذهب الليبرالي - الفردي  على فكرة تحرير الفرد من الأنظمة الاستبدادية و التسلطية التي كانت سائدة في القرون الوسطى  ومن كل إشكال الاستغلال و القهر  و منطلقه في الفرد  الواحد . 
           وهكذا جاء إعلان حقوق الإنسان و المواطن الفرنسي متأثرا بهذه الفلسفة " الفردانية " بحيث لا يعترف بغير الفرد كشخص قانوني  له  وجوده وحقوقه و حرياته  و إذا  كانت  دساتير الثورة  خصوصا دستور 1791  قد أكد للفرد حرية الاجتماع  فهو لم يقصد الاعتراف للجمعيات و النقابات  بوجود ذاتي .  ذلك أن حرية الاجتماع التي قررتها هذه الدساتير لا تعدو إلا أن تكون حرية التواجد المؤقت بين الأفراد للتشاور و تبادل الرأي دون أن يكون لهذا الاجتماع كيان ذاتي متميز عن الأفراد المكونين له.
       و هناك سبب آخر يفسر موقف إعلان الحقوق الفرنسي من النقابات و الجمعيات  وعدم اعترافه بها  ففضلا عن أخذه بتعاليم المذهب الليبرالي - الفردي  التي لا تقيم وزنا إلا  للإنسان الفرد  قد أراد أن يحرر الفرد نهائيا من بقايا النظام القديم هذا النظام الذي لم يقتصر التحكم فيه و الاستبداد على النظام الملكي المطلق  بل امتد إلى سيطرة الطوائف التجارية و الصناعية .   فإذا كان هدف الثورة الفرنسية  هو تحطيم الحكم المطلق و تحرير الفرد من بقايا الإقطاع  و ما يقوم عليه من امتيازات خاصة  كان لزاما أن يحرر الفرد نهائيا من كل أشكال التسلط  ومنها الأنظمة الطائفية التي تحول دون الأفراد و ممارستهم لحرياتهم الفردية الصناعية و التجارية  باعتبارها أهم ثمار الرأسمالية  و المذهب الاقتصادي الحر .
            و استمر القانون الفرنسي ينكر على الجمعيات و النقابات حقها في الوجود القانوني التلقائي  و يخضعها لشرط الترخيص  المسبق على أن تخضع لنظام دقيق في الرقابة  حتى عهد الجمهورية   الثالثة  حيث  اعترف    قانون 21 مارس 1884 و قانون 01 يوليو 1901 التي للإفراد  بحق تكوين النقابات  و الجمعيات  دون ترخيص  سابق . 
          و بهذه القوانين الجديدة اعترف المشرع الفرنسي للنقابات و الجمعيات بالشخصية القانونية التلقائية دون أن تكون هذه الشخصية القانونية منحة من الدولة كما كان الوضع السابق. 
             و ليس ثمة شك في أن هذا التطور الذي لازم نظرية الحريات العامة  انتقل بها من مجالها الفردي  الخاص  باعتبارها امتيازات للإنسان الفرد إلى المجال الجماعي  بحيث  أصبحت النقابات و الجمعيات  أشخاصا قانونية  لها الشخصية القانونية المستقلة عن الأفراد المؤسسين و لها و جودها الذاتي و كيانها المتميز .  و مما لا شك فيه  أن هذا التطور هو تأثير واضح في الابتعاد عن تعاليم المذهب الليبرالي - الفردي  التقليدية  و تكيف المشرع مع مقتضيات الحياة الاجتماعية و الاقتصادية  الجديدة  التي ولدها تكتل الفلاحين و العمال و الصناع  في جماعات للدفاع عن مصالحهم المشتركة و عن حرياتهم الفردية و الجماعية في مواجهة أرباب العمل و أصحاب الرأسمال  و بالتالي فالجمعيات     و النقابات أصبحت هي المكان الطبيعي و العادي للدفاع عن مثل هذه الأفكار .
الفرع الثاني:    من القدرة على التصرف الحر إلى مطالبة الدولة بعمل شيء

          لقد كان من مقتضيات تقديس الفرد و احترام ذاتيته أن اقر أنصار المذهب الليبرالي - الفردي  أن الإنسان الحر قادر على تحقيق الخير لنفسه بنفسه  وخير من يعرف أحسن الوسائل لتحقيق مصالحه و غاياته  و كان منطقيا أن يمنح الحرية اللازمة لمباشرة نشاطه و استغلال كفاءاته لتحقيق ذلك . 
      و من تم لزم أن يكون الأفراد أحرارا في العمل طبقا لما تمليه عليهم مصالحهم  و أن يسمح لهم بمزاولة الأنشطة التي  يختارونها و ليس للدولة أن تعرقل  نشاطهم ا وان تتدخل لمساعدتهم  ذلك أن كل فرد سيعمل و سيحقق مصالحه حسب إمكانياته  العقلية  و القانونية  و هو في ذلك سيخدم المصلحة الجماعية المشتركة  وليس من  حق الدولة التدخل لا لمساعدة الضعفاء و لا لحماية الأقوياء بل إن دورها ينحصر في تحقيق الأمن و العدالة  وحماية الحريات الفردية . 
        و بهذه النزعة الفردية المطلقة ظهرت مساوئ النظام الرأسمالي  القائم على فلسفة المذهب الليبرالي - الفردي  المشجع على الاستغلال في أقصى صوره  و جاء إعلان حقوق الإنسان و المواطن مكرسا لذلك فهو لا يقيم على الدولة التزاما  آخر إلا كفالة  الحريات و ضمانها  وليس لها بعد ذلك أن تتدخل في شيء  مما يسمح  للأفراد بحرية التصرف المطلق . 
            و لعل ما يبرر للمذهب الفردي هذا التوجه هو أن الإنسانية  في القرن الثامن عشر  لم تكن تشكو  من شيء  سوى  شكواها من مظالم الحكم المطلق و استبداد الطبقات صاحبة الامتيازات  حيث  كان الاقتصاد ما يزال يقوم على الزراعة  فلم تكن الحياة  قد أصابها التعقيد و لم تكن الفوارق الطبقية  الاجتماعية  و الاقتصادية  قد ظهرت بشكل واضح  كما لم يتكون و عي طبقي بضرورة الإصلاح و التغيير . 
       و بالرغم من اندلاع الثورة الفرنسية و اقتلاعها للنظام القديم  فإنها لم تعترف للفرد إلا  بالحقوق السياسية السلبية التي لا تلزم الدولة بعمل شيء ما  بقدر ما  تلزمها بعدم التدخل . 
          و لكن تحت ضغط التطور في الظروف الاقتصادية و الاجتماعية  و تنامي انتشار النزعات و الأفكار الاشتراكية  و وضوح الفوارق بين طبقات المجتمع   بدا التحول في مدلول  الحريات العامة  ظاهرا  من المدلول السياسي السلبي  أي مطالبة الدولة بعدم التدخل في الحريات الفردية للأشخاص إلى  ضرورة دعوتها  للتدخل الايجابي  عبر مطالبتها  للقيام بمجموعة من الأعمال  و الوظائف الاجتماعية  كالتعليم و الصحة  و النقل .
الفرع الثالث:من الحريات المطلقة إلى الحريات النسبية المقيدة  
      إذا كان المذهب الليبرالي - الفردي  في طرحه التقليدي  يقوم على  مبدأ الحرية المطلقة  و إلزام الدولة بعدم التدخل في أنشطة الفرد فانه بذلك يدعو إلى الفوضوية و إلى الخروج عن كل نظام جماعي  فهي فكرة  بدون شك  تهدد كل قيمة للمجتمع المنظم  الذي يجب  أن تسود  فيه كلمة الحق و القانون .
         فمنطق الدخول في الجماعة و الاعتراف بسيادة القانون ليحقق التوافق بين الحريات المتنافرة بين الأفراد يوجب على كل فرد التخلي عن مظاهر حريته المطلقة فيقبل الحدود التي يقيمها القانون و ينزل عند أوامره لكفالة النظام الجماعي. 
  و بناء عليه لم يكن من المنطقي  و لا من المقبول أن تؤخذ  الحقوق و الحريات  بمعناها الفلسفي المطلق  و عليه لا بد من الخضوع  و التقيد  بالقانون و قواعده  أي أن المشرع لا بد  يتدخل  لينظم مجال الحريات  و أن يفرض على الحريات العامة و ممارستها بعض أنواع القيود و الضوابط و ذلك حفاظا على كيان المجتمع و قيمه  و خصوصياته . 
    فالحريات تمارس دائما  في ظل القانون  مقيدة  بالضوابط القانونية حتى لا تتحول ممارستها إلى فوضى و هذا ما يتضح جليا في مجموعة من الدساتير التي ترصد بابا معينا للحريات  حيث تؤكد على صيانتها و كفالتها  تم تحيل على مجموعة من القوانين التي تنظمها و تحدد كيفية ممارستها  و مثاله الحق في ممارسة الإضراب بالمغرب  فهو حق مضمون و لكن لممارسته لا بد من احترام الشروط و الإجراءات التي يمكن معها ممارسة هذا الحق .

 الحريات العامة وحقوق الإنسان في المذهب الاشتراكي

أمام الانتقادات التي وجهت للمذهب الفردي في أسسه الفكرية والفلسفية، وأمام تنامي مساوئه بتنامي النظام الرأسمالي وظهور الليبرالية المتوحشة كنظام قائم على الاستغلال الفاحش لقدرات الطبقة العاملة، وباندلاع الحرب العالمية الأولى اهتز المجتمع البشري هزة عنيفة أشاعت الشك في موروث العقائد وزعزعت القيم، وانتقل مركز الثقل في السيادة إلى الطبقات الشعبية التي رأت في المذهب الاشتراكي وسيلة لتحقيق المساواة بين الأفراد في مجتمع بدون طبقات.
ولكن ما هي المصادر الفكرية والفلسفية للمذهب الاشتراكي؟ (المبحث الأول) وما هي انعكاساته وآثاره على دساتير الدول وقوانينها (المبحث الثاني) وما هي حدود هذا المذهب (المبحث الثالث) في تصوره للحقوق و الحريات . 

المبحث الأول: المصادر الفكرية والفلسفية للمذهب الاشتراكي
تنقسم هذه المصادر إلى نوعين أساسيين، حيث مر الفكر الاشتراكي من المرحلة المثالية والتي أسس لها كل من كونفوشيوس و أفلاطون وتوماس مور –(المطلب الأول)- أما المرحلة الثانية فتميزت بالتفكير العلمي المادي والتي جسدها كلا من كارل ماركس وإنجلز ولينين (المطلب الثاني).

المطلب الأول: الفكر الاشتراكي المثالي
برزت الاشتراكية في صورتها الأولى في مجموعة من الأفكار ظهرت في الصين القديمة على لسان كونفوشيوس في القرن 5 قبل الميلاد (أولا) كما نادى بها آفلاطون في كتابه الجمهورية (ثانيا) وظهرت في كتاب توماس مور تحث عنوان "يوتوبيا (ثالثا).
أولا: كونفوشيوس (551 ق.م 479 ق.م):
يرى كونفوشيوس أن الفرد يستمد مكانته في المجتمع على أساسا قيه وليس على أساسا نسبه واعتراف للفرد بإمكانية الانتقال من طبقة اجتماعية لأخرى. وقرر أن المساواة لا تتحقق إلا بالتعليم الذي به يعي أفراد الشعب حقائق الأمور ويصل كل فرد إلى مركزه الاجتماعي بحسب أخلاقه وقيمه ومستوى تعليمه.
ثانيا: أفلاطون (427 ق.م 347 ق.م):
أما أفلاطون فنادى بإلغاء الملكية الفردية إلغاء تاما، وإزالة الفوارق الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء، وأن يكون تعليم  المواطنين موجها نحو تقديم الصالح العام على المصالح الخاصة وضرورة تثقيف الحكام، واعتبر الفضيلة تقوم على المعرفة لا الجهل وفي كتابه "الجمهورية" تصور أفلاطون المدينة الفاضلة القائمة على أساس المبادئ الاشتراكية وعلى رأسها إلغاء الملكية باعتبارها تشكل سبب الانقسامات والخلافات بين الأفراد.

ثالثا: توماس مور: 1480-1535:
عبر" توماس مور" المفكر الانجليزي عن مجموعة من الأفكار الاشتراكية في كتابه "يوتوبيا" من بينها أساسا إلغاء الملكية الفردية والدعوة إلى الملكية الجماعية للأموال، معتبرا الفقر هو سبب كل المصائب والرذائل الاجتماعية، لهذا هاجم توماس مور طبقة النبلاء والسادة في المجتمع الانجليزي معتبرا إياهم أقلية تعيش في رخاء وترف على حساب الأكثرية التي تعيش الفاقة.
وبالرغم من ذلك، فكل هذه التصورات لا تشكل نظرية متماسكة ومترابطة سياسيا واقتصاديا بل هي مجرد أفكار وتصورات مثالية. ومع ظهور أفكار كارل ماركس اتخذت الفكرة الاشتراكية طابعا علميا وأصبحت مذهبا له أسس وقواعد.

المطلب الثاني: الفكر الاشتراكي المادي العلمي
إن المذهب الاشتراكي لم يكتمل تصوره للحقوق والحريات إلا مع الاشتراكية العلمية التي أسست لها كلا من أفكار إنجلز ولينين وكارل ماركس باعتبار الاشتراكية مذهبا علميا ماديا قائما على الاقتصاد والصراع الطبقي ،وفي كل المراحل التي شهدها تطور الفكر الاشتراكي تأثرت الحقوق والحريات بهذا المسار.

1- الحقوق والحريات في مرحلة ديكتاتورية البروليتاريا
فالدولة في هذه المرحلة ضرورية ويقودها العمال والفلاحون والمثقفون بصفقتهم أعضاء في طبقة الكادحين وهي "البروليتاريا"، ولكن هذه المرحلة تكون ديكتاتورية لا مكان فيها للحقوق والحريات لأن الدولة في حالة حرب ضد أعدائها في الداخل كما في الخارج.
إن النظام فيها قائم على الطاعة المطلقة ولا مجال لحرية الرأي ولا للمعارضة فعقيدة الدولة البروليتارية هي عقيدة الشعب ومن يعارض الدول يتم استئصاله.
وفي هذا الصدد يقول "لينين":
«لا يمكن أن تكون هناك حريات حقيقية في مجتمع قائم على أساس سلطة المال التي توجد فيها الطبقات الكادحة في بؤس في حين لا توجد إلا فئة (حففة) طفيلية من الأغنياء».
2- الحقوق والحريات في مرحلة الشيوعية الحقيقية :
في هذه المرحلة تكون أسباب الفوارق قد اختفت من المجتمع ، و الدولة  تسعى إلى إنعاش الانتاج و توفيره للجميع  و توزيع الثروات على الناس لتحقيق المساواة الفعلية . فالدولة في هذه المرحلة وجودها ضروري و اساسي لاعادة التوازنات الاجتماعية ، فالدولة هي حكومة الشعب للشعب لتحقيق سعادة الجميع في إطار العدالة و المساواة و الحريات .
3- الحقوق والحريات في مرحلة الشيوعية الكاملة  :
تعد مرحلة الشيوعية الكاملة المرحلة النهائية حيث تكتمل حلقات النظام الشيوعي ، و تتحقق العدالة المطلقة و المساواة للجميع ، و تكون الفوارق بين الناس قد تلاشت و انمحت ، و يكون الافراد قد وعوا بقيم العيش المشترك و المحافظة على النظام الجديد ، و بناء عليه فلا ضرورة لوجود الدولة كشكل للتنظيم ، و هو ما أعلن عنه كار ماركس بموت الدولة و زوالها .
و لكن ما هي انعكاسات المذهب الاشتراكي على إعلانات الحقوق و الدساتير ؟
المبحث الثاني: انعكاسات المذهب الاشتراكي على إعلانات الحقوق والدساتير
إن إعلانات الحقوق والدساتير الليبرالية تعتبر في نظر مفكري المذهب الاشتراكي غير ذات قيمة، ذلك أن النظام الرأسمالي يعني التناقض الواضح بين إعلانات الحقوق والحريات وبين التطبيق الفعلي والواقعي لها، ولهذا تقدم التجارب الاشتراكية نفسها كبديل في منح الحقوق والحريات، وبناء عليه سنتطرق إلى انعكاسات المذهب الاشتراكي في الاتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية سابقا في ظل دستور سالتين لسنة 1936 (المطلب الأول) ودستور فيمار بألمانيا 1919 ودستور ألمانيا الشرقية 1949 (المطلب الثاني) ودستور جمهورية الصين الشعبية الصادر سنة 1954 (المطلب الثالث).

المطلب الأول: دستور ستالين لسنة 1936
بنجاح الثورة البلشقية في أكتوبر سنة 1917 صدر الإعلان السوفياتي تحت عنوان: «حقوق الشعب العامل  والمستغل» سنة 1918.
وما يميز الإعلانات البروليتارية عن الإعلانات البورجوازية هو أن هذه الأخيرة إذا كانت ذات بعد وطني فإن الإعلانات البروليتارية ذات بعد دولي، فهي تعلن حقوقا لكل الشعوب والأمم، وحقوقا للمجموعات لا للأفراد، فهي لا تتعرض للإنسان المجرد للجماعة العاملة داخل الدولة . لقد تلا صدور هذا  الاعلان صدور دستور روسيا الاتحادية بتاريخ 10 يونيو 1918 الذي أكد مبادئ الإعلان السابق مشددا على إقامة ديكتاتورية البروليتاريا وإلغاء البورجوازية وتشييد الحكم الاشتراكي ومبادئه، كما نص على مجموعة من الحريات كحرية المعتقد، وحرية التعبير، وحرية التدين وحرية الرأي والتعبير، وحرية إنشاء الجمعيات وحرية التجمعات. وهذه الحريات نجدها جد موسعة في دستور 1936 المعروض بدستور ستالين والذي شهد عدة تعديلات بصدور دستور 1977 إلى غاية دستور الاتحاد الروسي الصادر سنة 1993 مع أخر تعديلاته إلى غاية دستور 2014 الذي ينص في الفصل الثاني منه على الحريات والحقوق الإنسانية والمدنية من المواد 17 إلى 64، كالحق في المساواة أمام القانون والمحاكم والحق في الحياة والكرامة والحق في الحرية والحرمة الشخصية والحياة الخاصة.
المطلب الثاني: دستور جمهورية فيمار بألمانيا 1919 ودستور ألمانيا الشرقية 1949
بانهيار الإمبراطورية الألمانية تم انتخاب جمعية تأسيسية في مدينة "فيمار" لوضع دستور جديد سنة 1919 وهو المعروف بدستور جمهورية "فيمار"، ويتضمن هذا الدستور الأفكار التي كانت تنادي بها الاشتراكية الديمقراطية في ألمانيا كما صدر متأثرا بالأفكار التي نادت بها الثورة الروسية الاشتراكية فبالإضافة إلى الحقوق المدنية والسياسية أعلم عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وأثر مبدأ تدخل الدولة لتفعيل وتنزيل هذه الحقوق والحريات على أرض الواقع وتنظيم الاقتصاد العام على أساس اشتراكي، إلا أن هذه الحقوق لم تطبق تطبيقا حرفيا، إذ سرعان ما انهار دستورفيمار مع  صعود النازية للحكم وما جاءت به من أفكار معادية للديمقراطية  سنة 1933  و ذلك بعد بعد تولي أدولف هتلر الحكم والذي وضع دستورا استمر العمل به حتى سقوط النازية سنة 1945.
وبتقسيم ألمانيا إلى قسمين : ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية اعتمدت هذه الأخيرة دستور 1949 الذي تم تجديده سنتي 1968 و1974 كما تم اقتباس مجموعة من المبادئ من دستور "فيمار"، لكن هذا الدستور انتهى العمل به منذ انهيار جدار برلين وتوحيد الألمانيين سنة 1990.

المطلب الثالث: دستور جمهورية الصين الشعبية لسنة 1954
بالرغم من أن الثورة الثقافية بالصين اندلعت سنة 1911 و أطاحت بالنظام القديم فإنها لم تعمل على تغيير بنية القوى السياسية المتواجدة تحت النظام السياسي الصيني إلا مع صدور دستور 1954 الذي أسس للصين الجديدة حيث أشار في مقدمة إلى أن «جمهورية الصين الشعبية تعمل بنظام الديكتاتورية الديمقراطية الشعبية، هذا النظام الذي يضمن أن تقضي الصين على الاستغلال والفقر عن طريق المساواة وتبني مجتمع اشتراكي غني ومزدهر» ، والملاحظ ان الدستور الصيني صدر متأثرا بأفكار "فلاديمير لينين" في البيان العام بشأن حقوق العاملين، وبالدستور الروسي لسنة 1918.
وعلى العموم فللصين نظرية خاصة للحقوق يمكن إجمالها فيما يلي:
1- الحقوق شيء تاريخي وليس طبيعي: ذلك أن الظروف التاريخية المختلفة تحمل في طياتها مفاهيم مختلفة للحقوق.
2- الحقوق شيء اجتماعي وليس شخصيا: فالواقع الاجتماعي هو الذي يعطي معنى وقيمة موضوعية للحقوق.
3- الحقوق شيء واقعي وليس عقليا وذهنيا:
إن الحقوق التي لا يستطيع المواطنون التمتع بها داخل دولة ما وتبقى مجرد أفكار نظرية ليست ذات قيمة، أما الحقوق الواقعية فهي الأعمال الحقيقية الملموسة لتفعيل حقوق المواطنين في الحياة الفعلية وترتبط ارتباطا وثيقا بظروفهم الحياتية المادية الواقعية المتاحة.
ولذلك يجب أن يبدأ ضمان الحقوق وتطويرها في الواقع، والتأكيد على أن واقعية الحقوق تتفوق على سمعتها الذهنية.
هذا وبالرغم من أن الأفكار الاشتراكية قد بشرت بالعدالة والحرية والمساواة لكن حين تطبيقها في العديد من التجارب السياسية انحرفت عن أهدافها وانتهكت حقوق الانسان و حرياته ، وهو ما أشر على أزمة الاشتراكية .
المبحث الثالث: حدود المذهب الاشتراكي وأزمته
بالرغم من أن المذهب الاشتراكي حاول التنظير للحقوق والحريات وبالخصوص في الجانب الاجتماعي والاقتصادي والدفاع عن الحقوق والحريات الجماعية إلا أن تطبيق الاشتراكية أظهر المفارقة الصارخة بين النظرية وواقعها وفي هذا الإطار وجهت لها مجموعة من الانتقادات منها:
1- القول بأن المادة أسبق من الفكر لا يستند على برهان علمي.
2- التركيز على الجانب الاقتصادي كمحرك للتاريخ يهمش باقي العوامل السياسية والدينية والثقافية والفكرية.
3- إن الدعوة إلى الثورة واستخدام العنف تتنافى مع الإصلاح التدريجي و بالطرق السلمية حفاظا على استقرار المجتمع وحياة الأفراد وممتلكاتهم التي تكفلها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
4- إن القول بزوال الدولة ستعم الحرية والعدالة المطلقة في مرحلة الشيوعية الكاملة كذبه التاريخ حيث لم تزل الدولة ولكن ما وقع هو تفكك دول المعسكر الشرقي سابقا ابتداء من سنة 1989 وانهياره مع سياسة البريسترويكا التي دشنها ميخائيلل غورباتشوف سنة 1991.
5- بانهيار المعسكر الشرقي ظهر للعالم حجم انتهاكات حقوق الإنسان وحرياته وقمع الأصوات المعارضة وبشاعة  الفقر و الاستغلال باسم الايديولوجية الاشتراكية و اوهامها .





ملتقيات طلابية لجميع المستويات : قانون و إقتصـاد

شارك هدا

Related Posts

التعليقات
0 التعليقات