تاريخ الفكر السياسي المعاصر s6 pdf

تاريخ الفكر السياسي المعاصر s6 pdf

محاضرات السداسي السادس : القانون العام
د احمد العبد اللوي
يعتبر نيقولا مكيافيللي من المفكرين السياسيين الذين بصموا الفكر السياسي.
يؤلف كتابه الشهير في عالم فن السياسة والحكم ألا وهو كتاب الأميـر،
والكتاب يدور في اطاره العام حول محورين: 
*محور كيفية الوصول الى السلطة والحكم.
*محور كيفية الحفاظ عليها.
بالإضافة الى فصل السياسة عن الاخلاق
تحميل تلخيص محاضرات مادة الفكر السياسي المعاصر pdf اضغط هنا


مادة الفكر السياسي  

الأستاذ: عبد المالك الوزاني

المبحث الأول: نظريات السلطة والدولة منذ القرن الثلث عشر الميلادي

يمكن اعتبار الصراع بين المَلَكيَّات، من جهة، وبينها والبابوية من جهة أخرى، بمثابة التربة التي نمت فيها البوادر الأولى لاستقلالية السلطة السياسية عن السلطة الدينية، وبالتالي، استناد الشرعية السياسية على أسس أخرى تخرج عن سيطرة الكنيسة.

فالصراع بين الدول التي لم تكن حدودها قد استقرت بعد من أجل الدفاع عن مجالها وتوسيعه كلما سنحت الفرصة بذلك، كان بمثابة المحرك الذي أدّى إلى تغيّر الخريطة السياسية في أوربا باستمرار، على مدى قرون، وعلى الأقل إلى غاية نهاية الحرب العالمية الأولى.

ولكن هذا الصراع بين الملكيات لم يكن الصراع الوحيد، لأن الملوك، كل في مجاله، كانوا كذلك في صراع مع قوى الإقطاع  (الفيوداليات) التي كانت  تنافسهم في السيطرة على المجال وتقتسم معهم السلطة، وتحدّ من شرعيتهم؛ فمنذ نهاية الإمبراطورية الرومانية، وإنشاء الإمبراطورية الرومانية - الجرمانية Saint Empire Romain Germanique كبديل عنها، ظهر داخل العالم المسيحي صراع آخر بين مناصري شرعية الإمبراطور في تمثيل وتوحيد العالم المسيحي، من جهة، ومناصري أحقية البابا الكاثوليكي في هذه التمثيلية؛ وقد ظهر بين المفكرين السياسيين من يدافع عن التوجه الأول، نذكر من بينهم الفيلسوف "دانتي"، صاحب "الكوميديا الإلهية" (1265+1321)، و"مارسيل دو بادو (1275=1343)، و"إيراسم" Erasme (1469=1536)، بينما ظهر كذلك من يدافع عن التوجه الثاني، ونذكر على سبيل المثال القديس توماس الأكويني.

الفصل الأول: في علاقة الكنيسة بالسلطة الزمنية

المطلب الأول: دانتي Aliguieri Dante (1265-1321) 

لأن نهتم هنا إلاّ بالجانب الذي تعتبر الأهم في المواقف السياسية للفيلسوف، ألا وهو موقفه من السؤال: أي السلطتين، الروحية أم الزمنية، لها الصدارة على الأخرى؟

على الرغم من أنّ "دانتي" معروف بكونِه صاحب "الكوميديا الإلهية"، إلاّ أنّه كان مهتمّا بشؤون السياسة والحكم، ليس فقط داخل مدينة "فلورنس" Firenze، ولكن كذلك بإيطاليا كلّها، التي كانت مقسمة إلى عدة دويلات (إمارات وملكيات وجمهوريات)؛ وقد دخل الصراع ضد المنتصرين لأطروحة أحقية الإمبراطورية بالشرعية السياسية ( Les Gibelins )،من جهة،  والمدافعين عن السلطة الزمنية للبابا، وعن سلطته على جميع ممثلي  الكنيسة أينما كانوا في البلاد المسيحية ( Les Guelfes )، من جهة أخرى؛ و  انحاز "دانتي" إلى التيار الأول، وأصبح يعتبر من أكبر أعداء البابوية Papauté‘ على الرغم من مسيحيته.

وأصبح الإنتاج الفكري لدى "دانتي"، منذ سنة 1302، يصبّ كلّه في اتّجاه الدفاع عن استقلالية السلطة السياسية عن سلطة الكنيسة، وضرورة إقرار سلطة الإمبراطورية التي كانت، في نظره، الوحيدة القادرة على تصفية أجواء الحرب الدائمة التي كانت تعيشها ليس إيطاليا فحسب، بل كافة البلدان الأوربية.

أصدر دانتي، سنة 1313،  كتابهDe Monarchia 1313. تلاشت مع وفاة الملك هنري السابع كل آمال دانتي في رؤية السلطة الإمبراطورية تستعيد يوما ما إيطاليا، على حساب سلطة البابا. في الكتاب الأول، امتدح دانتي فكرة نظام الإمبراطورية الكونية Empire Universel باعتباره النظام السياسي المثالي لضمان العدالة والسلام، وبالتالي سعادة الإنسان. ويهدف الكتاب الثاني إلى إظهار أن الشعب الروماني هو الذي يجب أن يمتلك السلطة العليا، لأنه وريث للإمبراطورية الرومانية وفقًا للقانون، أي وفقًا للإرادة الإلهية، وليس وفقًا للقوة فقط. وأخيرًا، تناول الكتاب الثالث ر العلاقة بين الإمبراطور والبابا، وكلاهما يستمد سلطتهما من الله ، ولكن يجب على كل منهما أن يمارسها في مجال سيادته.

الإمبراطورية، حسب "دانتي"، ضرورة عقلانية وطبيعية في آن واحد، لأنّ "مصدر السلطة الإمبراطورية منبثق عن ضرورة العيش في المجتمع بالنسبة للبشرية جمعاء، ومنبثق كذلك عن هدف وحيد، ألا وهو تحقيق السعادة للجميع؛ ولا أحد يمكنه تحقيق هذا الهدف لوحده؛ فالإنسان بطبعه كائن اجتماعي"، ميّال للعيش مع الآخرين.

ووجود نظام إمبراطوري يوحّد الجميع هو الآخر ضرورة كونية، إذ "من أجل القضاء على الحروب وأسبابها، يتوجّب بالضرورة أن تكون الأرض جميعها مَلَكيّة Monarchie، يحكمها أمير (هنا يعني الامبراطور) وحيد"، تكون لديه سلطة على سائر الملوك والأمراء، ويكون قادرا على تحديد مجال كلّ منهم، والسّهر على عدم تجاوزهم له، وبذلك يسود السلم والسعادة.

ويقول "دانتي" أنّ ما يمكن أن يقوم به شخص واحد بدل العدد، من الأفضل أن يقوم به شخص واحد، لأنّ في التعدّد الشتات و الإطناب والغموض، "والله والطبيعة يكرهان كلّ ما فيه غموض"؛ فمن الأفضل إذن أنه إذا أمكن أن يقوم بشيء شخص واحد، فليكن هو من يكلف بالمهمة، وهذا ينطبق على السلطة أيضا: "يمكن أن يكون الجنس البشري محكوما من طرف أمير وحيد"، وسيكون لهذا النمط أثرا إيجابيا في مجال توحيد القوانين والأحكام، وتجنيبها الضعف والثغرات(...) كل وئام ينتج عن الوحدة واتفاق الإرادات"، ولكن هذا لا يتحقق إلاّ بوجود أمير وحيد لكل الناس (...) فالملكية ضرورية لمصلحة الدنيا".

« (…) lorsqu’un seul suffit pour une œuvre, à quoi bon y employer plusieurs ? Le superflu déplait à Dieu et à la Nature. Puisqu’un seul la fait bien, plusieurs le feront mal ; et l’unité, la chose se rapproche davantage de sa fin (but) que la pluralité, dont la voie est visiblement plus longue ».

فيما يخص علاقة السلطة السياسية بالسلطة الدينية، أراد "دانتي" أن يبيّن أنّ الكنيسة والبابا ليس لهما سلطة مباشرة على الإمبراطور، وأن علاقة هذا الأخير مباشرة بينه وبين الإله: "لا سلطة على أمير الأرض، إلاّ سلطة أمير الكون، الذي هو الله، والله وحده هو من يمنح الشرعية "، هو الوحيد الذي يثبّت (...)؛ من البديهي أن سلطة الحاكم الزمنية تنبثق مباشرة عنه (الله)، دون أي وسيط"، وأنّ الامبراطور لا يحتاج إلى مباركة البابا.

أمّا وحدة الإنسانية وتجنّبها للحروب، فلا يمكن أن يتحققان إلاّ في ظل ملكية (امبراطورية)، بمعنى "إمارة واحدة، بأمير واحد" يجمع بين سائر الملوك ةالأمراء تحت ظله:

"Pour supprimer les guerres et leurs causes, il convient donc nécessairement que toute la terre et tout ce qui lui est donné de posséder à l’espèce humaine, soit une Monarchie, c’est-à-dire une seule principauté ayant un seul prince. Et que celui-ci, possédant tout et ne pouvant davantage désirer, maintienne contents les rois dans les limites de leurs royaumes, en sorte qu’entre eux règne la paix, en quoi les cités se reposent.

المطلب الثاني: مارسيليو دي بادوا (1275-1342) Marsiglio di Padova

كانت أوربا ما تزال تعيش الصراع بين الإمبراطورية الرومانية-الجرمانية Saint) (Empire Romain Germanique التي كانت تحكم المناطق الشمالية من إيطاليا، من جهة، والبابوية، من جهة أخرى، منذ القرن الثاني عشر؛ وظهر بعد "دانتي" فلاسفة ومفكرون أخرون يدعون إلى تغليب كفّة الإمبراطورية على كفة البابوية، يقينا منهم أنّ هذ الأولى وحدها تتوفر على الشرعية، وأن الكنيسة يجب أن تبق محصورة في مجالها؛ ومن بين هؤلاء المفكرين "مارسيليو دي بادوا".

         يعتبر مارسيليو من الفلاسفة الذين تأثروا بالفكر الأرسطي، وبأفكار ابن رشد الذي ترجمت كتاباته إلى اللغة اللاتينية. ومن ضمن مؤلفاته كتاب "المدافع عن السلم" الذي يتمّم نظرية "دانتي" حول العلاقة بين البابا والإمبراطورية الرومانية -الجرمانية؛ وبفعل مواقفه هذه، تم تحريمه (أو طرده) من المسيحية من طرف البابوية، كما كانت قد فعلت مع الملك "لويس الرابع"، وقبلهما "فريديريك الثاني"، ملك النمسا الذي توّج امبراطورا سنة 1215؛ وذهب "مارسيل" ليعيش في المنفى في بلاط عاهل "بافاريا"، حيث كرّس حياته للدفاع عن أحقية السلطة الزمنية في الاستقلال عن السلطة الروحية للبابا، وشرعية سلطة الامبراطور على كافة ممثلي الكنيسة داخل مجال الامبراطورية السياسي؛ وانطلاقا من هذا، يمكن اعتبار "مارسيل" أحد أكبر منعشي الحركة 'الكاليكانية" gallicanisme   التي تنامت على الخصوص في فرنسا، والتي مفادها استقلال الكنائس الوطنية عن روما، وإعطاء سلطة تعيين رجال الكنيسة للملوك داخل محالهم الترابي، وكذلك التصرف في مداخيل الكنيسة من طرفهم.

 ويجب التذكير بأن "مارسيل" درس في جامعة باريس، وكان قد اختير عميدا لها قبل أن يشدّ الرّحال إلى ألمانيا ليعيش في بلاط الإمبراطور.

الفقرة الأولى: "المدافع عن السّلم" (الامبراطور)

يوازي "مارسيل" بين وحدة الرسالة التي ترمز إليها رسالة المسيح، ووحدة البشرية تحت لواء سلطة سياسية كونية تمثلها الإمبراطورية؛ فرفض حالة التشتّت والتّفرقة التي كانت تعيشها إيطاليا كان من ضمن الدواعي لكي ينصهر مع المدافعين عن نفس الطّرح الذي نادى به "دانتي" قبله.

وكان يرى "مارسيل" أن "لويس  الرابع" ملك بافاريا Louis de Bavière، الذي كان قد انتخب إمبراطورا للإمبراطورية الرومانية-الجرمانية، أحق من غيره بعرشها، إذ كان الإمبراطور منتخبا من طرف أمراء يحضون بذلك الشرف، لأسباب تاريخية لا يتّسع المجال لتفصيلها هنا ؛ وكان كتاب "المدافع عن السلم" مهدى للملك "لويس الرابع"، مثلما أهدى "ماكيافيلي كتاب "الأمير إلى "لورينزو دي ميديتشي"؛ وكان لدى الإمبراطور سلطة رمزية وحق على المنطقة الشمالية بإيطاليا، لأن شرعية السلطة في هذه المدن كانت مقيدة باعتراف الإمبراطور بشرعيتها، لآنها كانت تدين له بالولاء، بعد أن كانت الإمبراطورية قد احتلتها في السابق.

وكان "مارسيليو" يدافع عن الملك لويس ضد مطامع البابا الذي كان يريد، مثله مثل الأخرين الحفاظ على هيمنته الروحية على ملوك وأمراء المسيحية، ولأن الإمبراطور كان، من جهته، يريد البقاء مستقلا بسلطته عن الكنيسة، والحفاظ على حقه في تعيين القساوسة، نظرا لقيامهم بمهام تدخل في نطاق سلطته، ولأنه كان يريد أن يثبت للكنيسة أنّ ممثليها يجب أن يكونوا تحت سلطته، وأن لديه وحده الحق في تعيينهم. وفي هذا الإطار، يمكن القول بوجود نوع من العلمانية في موقف "مارسيل"، حول دور الكنيسة، وحول ضرورة انصياع ممثليها للسلطة الزمنية للإمبراطور، الضامن الوحيد لمجتمع السّلم، وكذلك حول نظرته للدولة كمجتمع مصالح وكقوة زمنية محضة.

وكان مارسيليو يرى أنّ عدم انصياع الامبراطور للبابا لا ينقص شيئا من شرعيته، سواء الدينية أو السياسية، بل يعترف له بمهام دينية كذلك:

« Comme ministre de Dieu, [tu] donneras à cette entreprise la fin qu’elle souhaite recevoir de l’extérieur, très illustre Louis, Empereur des Romains, en vertu du droit du sang antique et privilégié, non moins qu’eu égard à ta nature singulière et héroïque, et à ton éclatante vertu, toi qui es animé d’un zèle inné et inébranlable pour détruire les hérésies, imposer et maintenir la vraie doctrine catholique et toute autre doctrine savante, détruire les vices, propager l’ardeur pour la vertu, éteindre les litiges, répandre partout la paix et la tranquillité et la fortifier 

وكان يرى أنّ الإنسان حيوان سياسي، يسعى إلى إنقاذ روحه، كما يسعى إلى السعادة التي سيصل إليها عبر الّسلم الاجتماعي الذي تكفله السلطة السياسية، وبالخصوص سلطة الإمبراطور.

 كوّن مارسيل نظرية حول أصناف الأنظمة السياسية، تشبه شيئا ما التصنيفات التي نجدها عند الفلاسفة اليونانيين، خاصة منهم أرسطو في تمييزه بين الأنماط السّويّة والأنماط الفاسدة؛ ولكنه لا ينطلق من فكرة البحث عن أفضلها.

الفقرة الثانية: نماذج الأنظمة السياسية حسب مارسيل:

على غرار ما نجده عند أرسطو، نجد عند "مارسيل" تصنيفا يقابل فيه الأنماط السّويّة والأصناف غير السّويّة:

نمط سوي

نمط فاسد

الملكية

الطغيان

الأرستقراطية

الأوليغرشية

 

الجمهورية

  الديمقراطية

 

 

يميّز "مارسيلسو" بين المَلَكية والطغيان، ويرى أن المَلَكية يحكمها فرد واحد، يحظى بقبول الجميع ويسعى للصالح العام، بيد أن الطغيان يكون الحكم فيه لصالح الطاغية وحده الذي لا يراعي رأي رعيته ومصالحها.

وهناك الأرستقراطية التي تقابلها الأوليكرشية؛ فلأولى، مثل الملكية، تراعي المصلحة العامة، ولا تختلف عنها إلاّ في كونها حكم الأقلية، بيد أنّ الأوليكرشية هي حكم أقلية لا تراعي إلاّ مصالحها الخاصة، ولا تهتم بالمصلحة العامة.

ثم هناك الجمهورية التي تعطي لكل مواطن الموقع الذي يستحقه، ولا يغيب عن اهتمامها الصالح العام؛ وتقابلها الديمقراطية التي، عكس ما يفترض، ليست بالنظام الذي يراعي المصلحة العامة، بل نظام حٌكم العدد الأكبر فقط.

أمّا المعيار المعتمد من طرف "مارسيليو" للتمييز بين الأنظمة السّوية والأنظمة الفاسدة، فهو قبول الرعية أو المحكومين، فالنظام الجيّد أو السّويّ يتوفر على ذلك القبول، ويكون مشروعا،  عكس النظام الفاسد أو غير السّويّ.

ويجعل "مارسيليو" من السّكينة أساس تقدم الأمم وتطوّرها، حيث أن السّكينة تضمن السّلم والطمأنينة والحرية، عكس الخلاف الذي لا يجلب إلّا الخراب والدّمار؛ والامبراطورية وحدها قادرة على ضمان الأمن للبشرية جمعاء.

وإذا أردنا تلخيص الفكرة التي يدافع عنها مارسيليو فهي أن وحدة المجتمع المثالي، الذي هو المجتمع المسيحي، لا يمكن أن يضمنها إلاّ الامبراطر وحده، وليس البابا أو الكنيسة، أو أي أحد آخر.

هناك من رأى في مارسيليو أحد مؤسسي الحداثة السياسية لأنّه كان يعطي أهمية كبيرة للسيادة الشعبية وللشرعية غير المنبثقة عن الدين، وهناك من كان يرى أنّه لم يكن يمثل إلاّ "النزعة الكونية في القرون الوسطى universalisme médiéval.

المطلب الثالث: توماس الأكويني (1225=1274) Saint Thomas d’Aquin

يعتبر "القدّيس "توماس الأكويني" ممثلا لتيار "الدومينيكان" الذي حاول أصحابه أن " يخضعوا الفكر المسيحي والمعتقد الديني بأكمله إلى الفلسفة المنبثقة عن أرسطو، " وأن "يفسّروا تلك الفلسفة تفسيرا يتلاءم مع ما يقتديه الإيمان".

ودراسة فكر "توماس الأكويني" مهمة تندرج ضمن الصراع القائم في عصره بين المدافعين عن صدارة الكنيسة والسلطة الزمنية الذي تطرقنا اليه من قبل، ولأن الكنيسة نفسها اعتبرت، على لسان البابا "ليون الثالث عشر" بأن هذا الفكر يعبّر عن النظرية الرسمية للكنيسة الكاثوليكية؛ ومنذ "مؤتمر فاتيكان الثاني (Vatican II)، أصبحت تعاليم توماس الأكويني مرجعية رسمية للكنيسة في مسار التعليم الذي يتلقّونه رجال الدين.

الفقرة الأولى: التوفيق بين العقل والعقيدة

التساؤل الذي ينطلق منه "توماس الأكويني" حول هذه العلاقي يتلخص كما يلي: إذا الله قد منحنا العقل، وإذا كان الله هو من يخاطبنا في الكتب المقدسة، كيف يمكن أن يكون هناك تناقض بين العقل والإيمان؟

ففكر "توماس الأكويني" كلّه محاولة للتوفيق بين العقيدة والعقل؛ فهو يميّز بين الحقائق التي يمكن الوصول إليها عن طريق العقل، والحقائق التي لا نتوصّل إليها إلّا عن طريق الإيمان؛ وبهذا يكون قريبا من أفكار ابن رشد، وقبله من أفكار أرسطو، لأنه كان يروم التقريب بين فلسفة هذا الأخير والفلسفة المسيحية؛ وكان يرى بأن الدين والعقل لا يتنافيان، إذا استعمل هذا الأخير بطريقة سليمة وغير مناقضة للعقيدة.

تسلّم فلسفة "توماس" بطيبوبة الإنسان الفطرية؛ ويقول أن الإنسان يمكنه أن يعرف وجود الله من خلال العالم الملموس، وليس عبر استنباط مبادئ عقلية غير ملموسة؛ إن ملاحظة الكون تؤدّي إلى معرفة الله  (نجد نفس الفكرة عند ابن رشد والفلاسفة المسلمين بصفة عامة).

ويعتبر كل محللي الفكر السياسي بأنّ فلسفة توماس الأكويني فلسفة واقعية؛ فهو يأخذ عن أرسطو أنّ المعرفة ملموسة قبل أن تكون في الذهن؛ فالحقيقة ليست خارج الإنسان، عكس ما نجده في الأفلاطونية، إذ يوجد الإنسان بين طبيعتين، طبيعة روحية وطبيعة مادية؛ فتوماس الأكويني كان يرى، مثل أرسطو، أنّ الإنسان حيوانا اجتماعيا وكذلك عقلانيا.

فالطبيعة كلها متوجهة نحو الله، والأخلاق يجب أن تتوجه نحو الخير، لأن الله يمثّل الخير؛ ويجب أن تكون كل أفعال الإنسان مطبوعة بالفضيلة، وهذا شيء مكتسب في روحه التي تدفعه إلى فعل الخير.

الفقرة الثانية: في الحرية والإرادة:

يرى توما أنّ أفعال الإنسان منبثقة عن إرادته وحريته، والإنسان الذي ينساق وراء نزواته ومولاته لا يمكن اعتباره حرا، لأنّ العقل عنده غير متحكم فيها. يرى توماس الأكويني أنّ الله يوجد في بداية كل شيء، وهو قادر على تنظيم الكون كله، إلاّ أنّه اختار بأن يخلق الإنسان الذي يختلف عن الحيوانات بفضل الحرية الـي أعطاها إياها وبفضل قدرته عن الابتعاد عن النظام الطبيعي.

الإنسان حر في اختياراته، وهو مسؤول عنها؛ أمّا الأفعال التي تحترم الأخلاق، فهي تؤدّي إلى الله.

الفقرة الثالثة: السياسة عند توماس الأكويني:

فكر توماس السياسي متأثر بآرسطو: التجمع مؤسسة طبيعية، بالنسبة له؛ فهو يعتبر أنّ الإنسان كائنا اجتماعيا، وهو منجذب بطبيعته إلى العيش في الجماعة، وإلى الفضيلة، وبهذا تكون للجماعة وللدولة Cité أسس طبيعية، مثل الأسرة؛ ولكن للعلاقة السياسية أسس عقلانية كذلك.

يرى توماس أنّ السلطة ناتجة عن كون الإنسان غير قادر على العيش في عزلة عن الآخرين، وهو في حاجة إلى الحياة الاجتماعية، وهذا ما يسمح له به العقل واللّغة اللّذان يختص بهما دون الكائنات الأخرى؛ والتنظيم السياسي لدى الجنس البشري لديه مهمة معينة، وهي تلبية حاجيات الإنسان؛ فالدولة في هذه الحالة ناتجة، إذن، عن النظام الطبيعي الذي يتوافق مع الإرادة الأهلية.

الفقرة الرابعة: تصنيف توماس الأكويني للأنظمة السياسية:

هنا كذلك يظهر تأثر توماس الأكويني بأرسطو، من خلال تصنيف أنماط الحكم والبحث عن أفضلها، أو بعبارة أصح عن النظام الأقرب لتحقيق السعادة للإنسان، وهذه الفكرة يمكن اعتبارها بمثابة قاسم مشترك بين جميع التصنيفات التي توالت في الفكر السياسي منذ أفلاطون وأرسطو.

لا يصنّف "توماس" أنماط الحكم انطلاقا من عدد الحكام كمعيار (فرد، أم فئة)، بل يتخذ كمعيار المبدأ، أو على الأصح، الهدف الذي يسعى إليه النظام؛ وهكذا هناك أربعة أهداف، كل منها يميز نمطا معّينا:

الفضيلة و الثروة والحرية والأنانية.

-         فالفضيلة تميّز الملكية والأرستقراطية؛ ولكن الملكية تهدف إلى الوحدة، والأرستقراطية تسعى إلى العدالة التوزيعية.

-         أما ألأولغرشية فتتأسّس على الثروة،

-         والديمقراطية تتأسّس على الحرية.

ويتساءل توماس عن قيمة كل نمط من الأنظمة، ويرى أنّ الملكية مثلا، إذا كانت تفوق كل الأنواع الأخرى، يمكن أن تتحوّل إلى طغيان، وهذا الأخير يعدّ أفظع نمط للحكم، كما لاحظ ذلك أرسطو من قبل.

أمّا الأرستقراطية، فيكمن ضعفها في صعوبة وجود حكام أكفاء، مقتدرين وغير مهتمين بمصالحهم الشخصية؛ فلأشخاص الذين يكوّنون الفئة الحاكمة، عادة، إمّا أن يتّحدوا فيما بينهم، ويحكمون بالطغيان والاضطهاد، وإمّا أن يتفرّقوا ويصبحوا غير قادرين على السلطة، وتذهب مصالح الشعب هباء.

أمّا فيما يخص الديمقراطية، يرى بأنها نظاما مقبولا، إذا ما تصرّف الشعب بحكمة وتريّث. ولكن العدد الكبير يلزم باللجوء إلى التمثيلية، وخطر هذا أن يصبح الممثلون طغاة بدورهم؛ لذلك تصبح الديمقراطية المباشرة هي وحدها النظام المقبول.

وفيما يخص تعيين أو انتخاب الحكام من طرف الشعب، فهذه الطريقة لا تؤدي إلاّ إلى تمكين الانتهازيين الذين يبحثون عن مصالحهم من خلال الوصول إلى السلطة.

 ولذلك بأنّه إذا كان لا بدّ من الاختيار بين أنماط خالصة من الحكم، فالملكية أفضلها، أو أقلّها ضررا.

ولكن "توماس" يرجّح النظام المختلط الذي يجمع بين الحرية والعدالة التوزيعية والوحدة، نظاما يجمع بين فضائل الملكية والأرستقراطية والديمقراطية. فالنظام الأفضل (الأصلح) هو الذي يحقق للإنسان الحرية في التصرف حسب قدراته؛ أمّا العدالة فتتحقق بالكرامة، وليس بالمساواة، لأن الناس مختلفون.

وبما أن الكون يخضع لقانون واحد، وهو القانون الإلهي، لا يجب أن تكون الدولة على شكل مختلف، إذ من الواضح أنّ العدد الكبير لا يمكن أن يحقق الوحدة ولا التوافق حول قضايا متعددة، وبالعكس، شخص واحد   يمكن أن يكون وسيلة لتحقيق الوحدة؛ فالعامة تكون محكومة من طرف شخص واحد أفضل من أن تكون محكومة بفئة أو بتلة من الناس.

وبهذا، يكون النظام السياسي المنشود من طرف توماس الأكويني محكوما في أعلى القمة من طرف ملك، ومن تحته تأتي مباشرة فئة من حكام فضلاء، يتمتعون بالحنكة والتجربة، ويختارهم الشعب الذي يزاول بهذه الطريقة حقه في الحكم؛ ولكنه يتوقّف عند هذا الحدّ.

ويرى انّ هناك ثلاثة أصناف من القوانين، الأول منها يتضمن الأخريين: الأول هو القانون الأزلي، ويمكن اختزاله في مبدأ عمل الخير، واجتناب الشر، وهو قانون أبدي، لا يتغيّر لأنّ الإرادة الإلهية أزلية ولا تتغير؛ أمّا الثاني فهو القانون الطبيعي؛ والثالث هو القانون الإنساني الذي ليس إلاّ تطبيق عملي من طرف الإنسان للقانون الطبيعي، وبهذا يقترب توماس الأكويني من فكر "سيشرون"  Ciceronالذي اثُر فيه هو ألآخر.

 المبحث الثاني: بوادر الحداثة في الفكر السياسي

من الغريب أن مؤسسي الحداثة السياسية، من حيث التنظير إلى القطيعة الواجبة بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، هناك ماكيافيلي وهوبس، اللذان يعتبران من أكبر المدافعين عن الحكم المطلق، ولو أن ماكيافيلي يخلف عن هوبس بتفضيله النظام الجمهوري المختلط بعناصر الملكية.

المطلب الأول: نيكولا ماكيافيلي 1469-1527

الفقرة الأولى: دواعي الفكر الماكيافيلي

السؤال الذي يتناوله كتاب "الأمير" الذي حرره ماكيافيلي سنة 1513 هو: كيف يصبح شخص أميرا، وكيف يحافظ على إمارته؟

وكان قد أهدى هذا الكتاب إلى أمير "فيرنسي"، "لورينزي دي ميديتشي":

 جيب ماكيافيلي أنّ الغاية الأسمى التي يجب أن يسعى إليها كل أمير هي الحفاظ على سلطته وتوطيدها. والقولة التي مفادها أنّ "الغاية تبرر الوسيلة"، يجب أن تفهم في سياقها التاريخي، حيث كانت فيه الإمارات والجمهوريات بإيطاليا، في عصر ماكيافيلي، تعيش تحت وطأة الحروب، والتهديدات الخارجية، وعدم الاستقرار بسبب الثورات الداخلية؛ وماكيافيلي نفسه عاش في مدينة 'فيرينسي"  Firenze التي عرفت، في غضون سنين قليلة، عدة أحداث رسخت في ذهنه القناعة بأن الحفاظ على استقرار الحكم يتطلب وجود شخصية خارقة للعادة؛ وهكذا عرفت المدينة الثورة على عائلة "ميديتشي" Medici ، ونفيها من المدينة، ثم عرفت حكم القس "سافونارولا"  Savonarolla الذي أضطهد السّاكنة وحاول إقامة حكم متشدد يعمل حسب تعاليم المسيحية، بشكلها الأصولي؛ وبعدها عرفت المدينة فترة الجمهورية التي شغل فيها ماكيافيلي منصبا مهمّا، ثم  عرفت عودة "ميديتشي" إلى السلطة. وفي فترة الجمهورية، كان الأمير "سيزار بورجيا" Borgia  قد احتل منطقة "رومانيا" Romagna  المجاورة ل"فيرنسي" لكي يؤسس فيها إمارة، وكان يطمح كذلك إلى احتلال كل المدن الأخرى بمنطقة "طوسكان، وسط إيطاليا ("بيزا" Pisa و" سيينا" Sienna و كذلك "فيرينسي")؛ فبعثت الجمهورية ماكيافيلي كسفير لديه، من أجل إقناعه بعدم التعرض لمدينته بسوء؛ وكان اللقاء بينهما مناسبة لمعرفة الشخص الذي سيصبح بالنسبة له القدوة ونموذج  الأمير الذي  يتوفر على كل الخصال التي سيضعها في كتابه "الأمير"

الأمير سيزري بورجيا وأختة لوكريشيا وأبيهما البابا الاسكندر السادس

ما أبهر ماكيافيلي في "سيزاري بورجيا" Cesare Borgia هو حزمه وإسراره على توسيع إمارته الجديدة لأن الهدف الأساس عند ماكيافيلي كان هو توحيد إيطاليا تحت سلطة واحدة، وهذا الحلم لم يتحقق إلاّ في نهاية القرن التسع عشر.

ولم يكن "سيزاري بورجيا" نموذجا للفضيلة ولا للأخلاق، ولم كن يستمدّ شرعيته وقوته إلاّ من كونه إبن البابا "إسكندر السادس" الذي لم يكن، هو الأخر، رمزا للفضيلة؛ ومع ذلك كتب ماكيافيلي في رسالة إلى اللجنة التي كانت تحكم "فيرينسي" أنداك أن " هذا الأمير رائع وعظيم، تحرّكه جرأة وشجاعة عسكرية تظهر له كل معها المغامرات هيّنة، ولا يرتاح أبدا من أجل المجد وتوسيع دولته؛ إنه لا يعرف التّعب، ولا يخشى المخاطر؛ لقد اختار أحسن المقاتلين لخدمته؛ وجنوده يحبّونه؛ كل هذا يجعل منه منصورا ويخاف منه".

ولكن قوة هذا الأمير، الذي أصبح بفضل أبيه البابا، أسقف (كاردينال) في السادسة عشرة من عمره، والذي خطط ليصبح ملكا أو أميرا على منطقة وسط إيطاليا كلّها، لم تصمد، إذ بمجرد موت أبيه وانتخاب بابا جديد، "جول الثاني"، انهارت قواه وضعفت شعبيته، واضطر إلى مغادرة إيطاليا، والنزوح إلى اسبانيا، ليدخل في خدمة صهره ملك "نافار" Navarre(شمال اسبانيا)، ويدخل بذلك في خانة النسيان.

وبعد سياسة الفساد والتشتت التي كان يزاولها البابا "إسكندر السادس" (أب سيزار بورجيا)، دشّن البابا "جول الثاني" سياسة أكثر تفرقة لإيطاليا، إذ من أجل إعادة بناء وتقوية سلطته، اختار الحرب كوسيلة، خاصة ضد "البندقية" التي كانت أنداك القوة الوحيدة القادرة على التصدي للغزاة الأجانب، من ألمان وفرنسيين وسويسريين وإسبان.

« La cause pour laquelle l'Italie ne se trouve pas dans la même situation, et n'est pas soumise à un gouvernement unique, soit monarchique, soit républicain, c'est l'Église seule qui, ayant possédé et goûté le pouvoir temporel, n'a eu cependant ni assez de puissance, ni assez de courage pour s'emparer du reste de l'Italie, et s'en rendre souveraine. Mais d'un autre côté elle n'a jamais été assez faible pour n'avoir pu, dans la crainte de perdre son autorité temporelle, appeler à son secours quelque prince qui vint la défendre contre celui qui se serait rendu redoutable au reste de l'Italie »

لهذا كان يرى ماكيافيلي أنّ سبب تشتت الأمة الإيطالية وخرابها هي الكنيسة التي تزرع الفتنة والتقسيم في البلاد: "إذا لم تتمكن إيطاليا من التوصل إلى أن تكون موحدة تحت سلطة جمهورية واحدة، أو أمير واحد، فالسبب في ذلك لا يجب البحث عنه إلاّ في سياسة البابويّة التي لم تجد أبدا- بعد أن وطّدت سلطتها على أراضيها - لا القوة، ولا العبقرية لكي تغزو إيطاليا بأكملها وتحكمها (...)، ولكنها لم تتهاون في النداء على قوة أجنبية لقتال من يظهر لها أنه سيصير قوة (منافسة) في إيطاليا". بل أكثر من هذا، يرى ماكيافيلي أنّ السلطة الزمنية للبابوية من الرّواسب الخطيرة لماض يجب أن يضع معه قطيعة كل رجل سياسة حداثي. ويرى أن هذه سلطة البابوية أصبحت أكثر شراسة، وأكثر خطرا على مستقبل إيطاليا.

إيطاليا في عصر ماكيافيلي

الفقرة الثانية: من هو الأمير؟

الغاية من وراء كتاب الأمير وإهدائه إلى "لورينزو دي ميديتشي" كانت غاية مزدوجة: أوّلا، استعادة  ماكيافيلي المكانة التي افتقدها بمناصرته التيار الثوري المناهض لعائلة ميديتشي، حيث سجن و تم نفيه من المدينة بعد عودتها إلى السلطة؛ وثانيا، إعطاء نصائح للأمير "لورينزو"، لعلّه يمثل الأمير القوي، الموحّد الذي طالما حلم بمثله لإيطاليا. وكان عنوان الكتاب الأولي هو "الإمارات"، وليس الأمير؛ ويقول ماكيافيلي:"(...) قمت بتأليف كتيب De Principatibus، حيث أستكشف المشاكل التي يطرحها مثل هذا الموضوع بأفضل ما لدي: ما هي السيادة، كم عدد أنواعها ، وكيف نكتسبها ، وكيف نحافظ عليها ، وكيف نفقدها؟" فالغاية هي الحفاظ على السيادة، بكل الوسائل؛ ومن أجل هذه الغاية، يسمح للأمير أن يستبدّ، وأن يخادع، وحتى أن يصفّي معارضيه جسديا، إذا كان ذلك من أجل استقرار الدولة والحكم.

ويركّز ماكيافيلي على ضرورة أن يستميل الأمير شعبه، وأن يعمل على كسب ثقته وحبّه؛ ويمكن أن يقوم بذلك عبر موافقته لعادات وتقاليد شعبه، وهذه هي الطريقة الأنجح لكي يضمن السّلم؛ فيجب عليه أن يكيّف سياسته مع ظروف رعيّته؛ فالثورات التي تقع دون سفك الدماء تكون دائما بموافقة الشعب.

 ويرى ماكيافيلي أنّ المساواة ضرورية، وهي تعني أن يكون الجميع متساوين أمام القانون؛ كما يرى بأنّ حق الملكية يجب أن يكون مكفولا، ولو مبدئيا.

يعتبر كتاب "الأمير" أهم الكتابات التي هيّأت إلى تناول جديد وغير مسبوق لمسألة الحكم، بعيدا عن الدّين، ولذلك يعتبر من الكتب التي دشنت المنظور العلماني للسياسة، ويعتبر ماكيافيلي بمثابة الأب الروحي للحداثة السياسية، بحيث يضع قطيعة مع إقحام الدين في ممارسة السياسة وفي شرعية السلطة.

ولكن، يجب أن ننتبه إلى شيء مهم: كثيرا ما يفهم ماكيافيلي خطأ على أنّه أراد إبعاد الأخلاق عن السياسة تماما، ولكن ما أراد قوله هو أن هناك وجود أخلاق سياسية، إلاّ أنّ قواعدها بعيدة تماما عن الأخلاق الدينية المسيحية.

ويعتبر ماكيافيلي أنّ الدولة إذا أرادت أن تكون قوية، يجب أن يترأّسها أمير يكون مستعدا لفعل كل شيء من أجل الدفاع عنها.

 ويجب أن نلاحظ أنّ ماكيافيلي لا يشجع عن استعمال العنف بطريقة لا متناهية ومستمرة، ولكن فقط عند الضرورة.

 وقد أراد، من خلال كتابه، تقديم جملة من الآليات والنصائح التي يمكن أن يلجأ إليها الأمير من أجل الدفاع عن دولته. وقد أصبح لبرهة من الزمن الأمير "سيزار بورجيا" هو نموذج الأمير الذي يعرف كيف يحافظ على سلطته باستعمال الصرامة، من جهة، واستمالة الشعب، من جهة أخرى.

 فالأمير يختار الصرامة تارة، والليونة تارة أخرى، ويستعمل التّحايل مثل الثعلب، ويستعمل القوة، حسب الظروف، ويجب أن يكون قادرا على التمييز وعلى اختيار الوسيلة الأفضل؛ ويجب أن يكون ذو معرفة جيدة بشعبه، وأن يكون مهتما بصورته أمامه، لكي يكون محبوبا من طرفه؛ ولكن، يجب أن يخشاه الشعب كذلك، وهذا أفضل: "كل من أراد إنشاء دولة ومنحها قوانين، وجب عليه أن يفترض منذ البداية أنّ كل الناس أشرار، متغيّري الطبع، ولا يمكن معرفة حقيقتهم"، يكتب ماكيافيلي.

ركّز ماكيافيلي على ما سمّاه  La Virtù   التي تعني بالنسبة له تلك القوة الخارقة للعادة التي منحتها الطبيعة للإنسان، وكذلك الشجاعة والقدرة على إنجاز أعمال سياسية وعسكرية كبرى، وعلى الخصوص القدرة على إنشاء الدول، والحفاظ عليها. La Virtù هي الخصلة التي يتمتّع بها النموذج المثالي للأمير؛ فهي نمط سلوك الجندي في المعركة الذي يكشف عن بعد نظر وضبط للنفس، و رباطة جأش وثبات وتصميم وعزم وحسم وتعلّق بالهدف وشجاعة وجسارة وقوة". والقوة يجب أن تكون قوة منظمة تحترم الدّين والأخلاق، ولكن الدّين الذي يقوّي الأنسان ولا يضعفه؛ ولا يجب أن يعتدي الأمير على أموال وأعراضهم، لأنه يمكن أن يثير خوفهم، ولا يجب أن يثير حقدهم.

« Cependant le prince qui veut se faire craindre doit s'y prendre de telle manière que, s'il ne gagne point l'affection, il ne s'attire pas non plus la haine ; ce qui, du reste, n'est point impossible ; car on peut fort bien tout à la fois être craint et n'être pas haï ; et c'est à quoi aussi il parviendra sûrement, en s'abstenant d'attenter, soit aux biens de ses sujets, soit à l'honneur de leurs femmes ».

 وكان يفضّل الجمهورية لآنه كان يرى بأنّ المصلحة العامة تسمو على المصلحة الخاصة؛ ولكن، بما أنّه كان يرى بأنّ الجمهورية لا تكتمل إلاّ بشخص تتوفر فيه La virtù، كان لديه كذلك ميول للملكية، أو للإمارة؛ وأكثر الأنظمة التي توفرت فيها هذه الخصلة، في نظره، هي الجمهورية الرومانية.

 ولكن نموذجه الجمهوري عبارة عن نظام مختلط بشيء من الملكية؛ فهو كان يرى أن الجمهوريات لا يمكن أن تنشأ إلاّ من طرف شخصيات قوية، قادرة على حكمها؛ ولذلك وضع أمله في أمراء عائلة "ميديتشي".

، وأخذ عن "بوليبوس" Polybe أن الدول تتغير، وأنّ الانهيار والانحطاط يتلو فترة الرّفاه، وأنّ هذا التغيّر يشكل دورة تعيد نفسها. ويمكن اعتبار الفصل الثاني عشر من كتاب الأمير بمثابة استنساخ لأفكار "بوليبوس"، إذ يوافقه ماكيافيلي الرأي أنّ أنماط الحكم البسيطة، غير المختلطة، مثل الملكية والأرستوقراطية والديمقراطية غالبا ما تكون غير مستقرة، وميّالة إلى التّحول إلى عكسها.

هناك ثلاثة عوامل مشتركة بين الجمهورية والملكية:

-وجود سلطة إدارية مركزية قوية،

-وجود طبقة عليا أو نبيلة (قد تكون مؤسسة في مجلس أعلى)،

-وجوب التعامل مع الشعب بحسن نية، لآن ذلك ضروري لاستقرار الحكم ولاستمراريته.

في النظام الملكي أو الأميري، السلطة متمثلة في شخص واحد؛ وهناك نوعين من الملكيات، وراثية، ومنتخبة.

في هذا النمط، لا بد من وجود قوانين تنظم العلاقة بين الملك والنبلاء، وتحدّ من قوّتهم وسلطاتهم؛ وهذا ما نجده في فرنسا ويفسر قوة الملكية هناك.

ويرى أنّ الديكتاتورية يمكن أن تضمن الاستقرار، إذا ما كانت الملكية تعرف أزمة، ولكن الديكتاتورية يمكن أن تتحوّل إلى طغيان، أو استبداد، حتى لو نشأت على أسس دستورية؛ ولا يجب أن تدوم الديكتاتورية طويلا. ولكنه في "المقللات حول عشرية تيت ليف" Discours sur la décade de Tite Live ينوّه بالجمهورية، ويرى أنها أفضل نمط من الحكم.

وما تبقى من كتاب الأمير يهم مسألة السيطرة على الجماهير (الفصل 19)، ومسألة التعامل بالوداعة والصرامة معا (الفصل 22)، وكلها تشكّل الأليات التي تكلمنا عليها فيما سبق.

المطلب الثاني: توماس هوبس (1588-1679) Thomas Hobbes

عاشت إنجلترا في عهد توماس هوبس أصعب وأحرج فترات تاريخها السياسي. سنة 1603 توفيت الملك "أليزابيث الأولى" ( الملقّبة بالملكة العذراء)، بدون أن تترك وريثا مباشرا للعرش، فخلفها ملك سكوتلاند، "جاك الرابع"، ابن "ماري ستيوارت" التي كانت قد سجنتها، ثم أعدمتها "إليزابيث" لأنها كانت هي وريثة العرش ويدين بالكاثوليكية، عكس الملكة التي كانت تنتمي إلى الكنيسة "الأنجليكانية" التي كان قد أسسها أبوها الملك "هنري الثامن"، بعد انفصاله عن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.

وبعد أن تولىّ عرش إنجلترا، أخذ لقب "جاك الأول"، ونشأت بينه وبين النبلاء وممثلي العموم أزمة تعايش، بسبب سياسته الدينية، المتشددة تجاه غير الأنجليكانيين، وبسبب عدم فهمه للنظام الإنجليزي، أهمية البرلمان، وبالصوص مجلس العموم؛ ففقد الطير من شرعيته، وعاش في أزمة في آخر سنوات ملكه. وقد طالت آثر هذه الأزمة فترة ملك ابنه "شارل الأول" (1627-1992) الذي تسبب، بتماديه في نفس سياسة أبيه، في

حربين أهليتين بين مؤيّدي البرلمان ومؤيّدي الملكية، 1642-1642 و1648؛ هذه الأخيرة أدّت إلى انهزامه وإعدامه بقطع رأسه في 30 يناير 1649.

كان لشارل الأول ابنا قد بعثه أبوه خارج انجلترا ليعيش في كنف عائلة أمه التي كانت هي نفسها أميرة ابنة ملك فرنسا "هنري الرابع"؛ عاش بعد وفاة أبيه في المنفى، بهولندا، وبباريس، وهناك كان "طوماس هوبس" قد عمل كمعلم؛ ومن هذا يمكن أن نقول أنّ "هوبس" عاش كشاكل عدم الاستقرار الناتجة عن المنافسة الشرسة من أجل السلطة عن قرب، وهذا ما أثر في فكره وتحليله لمسألة السيادة والشرعية.

بعد إعدام شارل الأول استولى على السلطة "كرومويل" ومارس ديكتاتورية حقيقية لمدة ما يقرب عقدا من الزمن، و بعد وفاته تولى السلطة ابنه "ريتشارد كرومويل" الذي تنازل عنها، وأمام الفراغ اضطر البرلمانيون لإعادة العمل بالملكية، وتمت المناداة على "شارل الثاني" ليتولّى عرش أبيه. :انت فترة حكمه صعبة، ولكنها كانت الفترة التي تبنى فيها البرلمان، سنة،1679 قانون "الهابياس كوربوس" Habeas Corpus الذي تعتبر أول وثيقة تحمي فعليا الحرية الفردية ويضمن استقلالية القضاء.

في هذه الظروف الصعبة والمتقلبة بالنسبة للملكية في إنجلترا، عاش طوماس هوبس وألف كتابه الشهير The Leviathan الذي يعتبر بمثابة بيان ومرافعة للدفاع عن الاستبداد الملكي وشرعتنه.

يعتبر هوبس الفيلسوف الذي مثل أكثر من غيره فلسفة الاستبداد، ومنظر الدولة القوية، كما يعتبر من مؤسسي النظريات السياسية الحديثة التي تعتمد على فكرة العقد الاجتماعي من أجل تبرير نمط معين من الحكم.

وينطلق هوبس من التنظير لحلة الإنسان في حالة الطبيعة لكي يبرر نظريته السياسية ونمط الحكم الذي يراه الأنسب لضمان السلم والاستقرار.

الفقرة الأولى: حالة الطبيعة عند هوبس

في الواقع، حالة الطبيعة ليست حقيقية، وإنّما مجرّد تصور يعطي هوبس من خلاله ما يراه حول الإنسان في حالته البدائية؛ فحلة الطبيعة هي فوضى، حالة شبه حرب دائمة بين البشر، حالة يكون فيها الكل ضد الكل، وهي حالة يفعل فيها كا فرد ما يشاء، حسب قدرته وقوته، ويسودها الخوف وعدم الاستقرار.

من أجل الخروج من هذه الحالة، لابد، في نظره، من عقد اجتماعي، الهدف منه هو تحقيق السّلم والطمأنينة.

يكوّنون الأفراد، بهذا التعاقد، مجتمعا وينشؤون دولة (جمهورية).

وحين تنشأ الدولة، يجب أن تكمن السيادة إمّا في شخص الملك، أو في جمعية، وهذا الشخص سيتولىّ خدمة المصلحة الامة، مصلحة الشعب، ويصبحون الآخرون رعايا له.

يكتب هوبس في "الليفياتان":"كل ما يترتّب عن زمن الحرب الذي يكون فيه الإنسان عدو للإنسان، ناتج عن زمن يعيش فيه البشر بدون أمن، ما عدى الأمن الذي توفّره لهم قدرتهم على الإبداع؛ في هذه الحالة (حالة الطبيعة) ليس هناك مجال للنشاط الصناعي، لأنّ نتائجه غير مضمونة، وليس هناك زراعة، أو ملاحة، ولا استهلاك للمنتوجات المستوردة عن طريق البحر(...) ولا معرفة للأرض، ولا للوقت؛ ليس هناك فنون، ولا آداب، ولا مجتمع، وأكثر من كل هذا، هناك الرعب المستمر وخطر الموت العنيف؛ فحياة الإنسان (في حالة الطبيعة) حياة الوحدة، حياة فقيرة وقرفة وقصيرة".

لذلك وجب العقد الاجتماعي، وإنشاء تلك الدولة  التي هي الحلّ.

ومن أجل إنشاء الدولة، يجب أن يتنازل كل الأفراد عن جميع حرياتهم، وإعطاء الدولة كل الحقوق والصلاحيات، كل السلطة.

فهوبس متشاءم من الطبيعة البشرية التي لا يمكن في نظره ردعها إلاّ بسلطة قوية ومطلقة؛ والهدف من هذا هو إرساء السّلم والأمن.

الفقرة الثانية: حداثة فكرة العقد الاجتماعي.

إذا كان هوبس يعتبر منظر الدولة الاستبدادية والحكم المطلق، فإنّه  يعتبرمع ذلك من مؤسّسي الفكر السياسي الحديث، بعد ماكيافيلي، لأنّه جعل أساس شرعية الدولة، ليس الدين، أو الوراثة، بل الإرادة الجماعية التي تتجسد في العقد الاجتماعي.

كتاب "الليفياتان":

الكتاب مقسم إلى أربعة أجزاء:

1-   الإنسان

2-   الجزء الثاني مخصص لواجبات المواطن تجاه الدولة، وكذلك شكلها ووظائفها، ويعتبر أن الملكية المطلقة أحسن نمط من الحكم لأنّ القوة تغيب في جميع الأنماط الأخرى.

3-   الجزء الثالث مخصص لمسألة الطاعة obéissance، ويطرح السؤال: هل طاعة الدولة تتناقض مع الطاعة تجاه السلطة الدينية؟ ويرى أنّ ليس هناك تناقض بين قوانين الدولة والقوانين الإلهية، إذا ما قبلنا فصل السلطة الزمنية عن السلطة الروحية, لأن السلطة الوحيدة التي توجد للإنسان في الواقع هي سلطة الدولة؛ ويتبنى هوبس هنا نفس الموقف الذي أسّس له ماكيافيلي في هذا الصدد.

4-   الجزء الرابع يهم ما يمكن أن تسير عليه حياة الإنسان إذا ما خرج عن نموذج الدولة الوحيد الذي يراه هوبس مناسبا، وخرج عن المجتمع ومن العقد الاجتماعي؛ يرى هوبس أنّ في هذه الحالة ستتحول الحياة فوق الأرض إلى جحيم.

يقال على هوبس بأنّه الأب الروحي للنظام التّعاقدي الذي سنجده عند "إيمانويل كانط"، و"جون لوك"، و"جان جاك روسو". وعلى الرغم من أنّه ينتهي بفكرة الدولة القوية التي تحل محل الأفراد، إلاّ أنّه مقتنع بأنّ هذه الدولة تمثل إرادتهم وتخرجهم من حالة الرعب التي كانوا يعيشونها في حالة الطبيعة.

فالدولة التي ينظر لها هوبس، على الرّغم من أنّها استبدادية، إلاّ أنّها تستمدّ جذورها من فعل ديمقراطي، ألا وهو العقد الاجتماعي. إلاّ أنّ هذا العقد ملزم للجميع بصفة نهائية، ولا يجوز الخروج منه، ممّا عدم جواز الخروج عن سلطة الدولة المنبثقة عنه.

الفقرة الثالثة: مركزية مفهوم السلطة في فكر هوبس:

ليو  Leo Strauss يقول أنّ كلمة السلطة تلخص كل فكر طوماس هوبس؛ ويعد فكره، في هذا المجال، امتدادا لفكر ماكيافيلي. ويفهم المصطلح بمعنى سلطة إنسان على إنسان آخر، وهذ هو المعنى الذي نجده فيما بعد عند فيلسوف مثل "فوكو".

ويجعل هوبس سلطة الإرادات الجماعية المتعاقدة والمتجسدة في الدولة فوق كل سلطة أخرى. ويستحسن أن يكون على رأس الدولة ملك يكون لديه الحق في استعمال جميع الوسائل من أجل فرض إرادته لأنّه الضامن الوحيد للمصلحة العامة. ولهذا يقال على هوبس بأنه المدافع عن الملكية الطلقة. وخذه السلطة تجد شرعيتها في كونها منبثقة عن تنازل الجسم الاجتماعي عن كل حقوقه لصالح الحاكم لكي يقوم بكل ما يلزم لذلك.

« Celui qui transmet un droit transmet les moyens d'en jouir, dans la mesure où c'est en son pouvoir. Par exemple, celui qui vend un terrain est censé transmettre l'herbe et tout ce qui y pousse; De même, celui qui vend un moulin ne peut pas détourner le cours d'eau qui le fait fonctionner. Et ceux qui donnent un homme le droit de gouverner comme souverain sont censés lui donner le droit de lever des impôts pour entretenir des troupes et nommer des magistrats pour l'administration de la justice ».

المبحث الثالث: الأسس الأولى للديمقراطية الحديثة

لماذا اخترنا وضع مونتيسكيو وجون لوك، اللذان يعتبران بانّهما المؤسسان لنظرية فصل السلط، في نفس الخانة مع جان جاك روسو الذي اعتبره كارل بوبر بأنه مؤسس لنظرية النظام الشمولي، وليس للديمقراطية؟

يمكن ان نبرر هذا الاختيار بكونهم وضعوا الحرية في قلب نظريتهم، وبأنهم بنوا نظريتهم السياسية حول موضوع الحرية.

المطلب الأول: مونتيسكيو 1689-1755

يرى" ريمون آرون" أنّ مونتيسكيو كان يريد أن يبيّن أنّ الإنسان لم يكن همجيا، ولا ميّالا للحروب، في حالة الطبيعة، كما كان يظن هوبس؛ الحرب، بالنسبة له، ظاهرة اجتماعية، أكثر منها إنسانية؛ وهذا يعني أن الحرب نشأت مع نشأة المجتمعات.

وإذا كانت الحرب وعدم مساواة ظاهرتين غير مرتبطتين بالطبيعة الإنسانية، وإنما بطبيعة المجتمع، سيكون الهدف من السياسة، ليس القضاء عليهما، وإنما التخفيف من حدّتهما؛ ويختلف مونتيسكيو  في هذا  مع "جان جاك روسو"، حيث أنّه لا يريد إلغاء عدم مساواة البدائية، مثل روسو، ولكن فقط التخفيف من حدّتها.

وحياة الإنسان، سواء كانت في حالة الطبيعة، أم في المجتمع، مرتبطو بوجود قوانين تحكمها وتنظم معناها؛ والأهمية التي تكتسيها هذه القوانين هي التي جعلت مونتيسكيو يبحث عن مغزاها ويعنون كتابه "روح القوانين".

الفقرة الأولى: القوانية

لقد خصص مونتيسكيو الفصل الأول من كتابة "روح القوانين" إلى التمييز بين القوانين الطبيعية.

1.    القوانين الطبيعية:

لكي نتعرّف عليها، يجب أن نعرف الإنسان قبل نشأة المجتمعات؛ فقوانين الطبيعية هي تلك التي تلاها في حالة مثل هذه. والقانون الذي يولّد فينا فكرة الخالق ويدفعنا في اتجاهه هو أكثر قانون طبيعي في الأهميّة.

ومن قوانين الطبيعة، معرفة الخالق والبحث عن الأكل.

وكان لدى مونتيسكيو نظرية مختلفة تماما عن نظرية هوبس حول حالة الطبيعة؛ إنّه كان يرى بأنّ الخوف الذي كان هوبس يراه مهيمنا على حالة الطبيعة، ليس حقيقيا، لأن الناس لم يعرفوا الخوف إلاّ في حالة المجتمع. فالخوف يدفع الناس إلى التآلف وليس العكس، بل أنهم قد يجدون في التقارب اللذة التي يحس بها الحيوان حين يرى حيوانا آخر من نفس فصيلته. فالبحث عن التقارب يشكّل القانون الطبيعي الثالث.

أمّا القانون الطبيعي الرابع، فهو العيش في المجتمع.

2.القوانين الوضعية:

بمجرّد أن يكوّن الناس مجتمعا، يفقدون الإحساس بضعفهم؛ وتنتهي المساواة بينهم، لتبدأ الحروب؛ وكل مجتمع يحس بقوّته، وهذا يخلق حالة حرب دائمة بين الأمم.

ثم أنّ الأفراد داخل كل مجتمع يمتلكون تدريجيا الإحساس بقوّتهم، ويبحثون على التّمايز، وهذا كذلك يخلق بينهم حالة حرب. وهتان الحالتان هما اللتان تؤسسان القوانين الوضعية؛ وكذلك الأمر بالنسبة للمجتمعات.

« Dans (l’état de nature) chacun se sent inférieur ; à peine chacun se sent-il égal. On ne chercherait point à s’attaquer et la paix serait la première loi naturelle. […] Sitôt que les hommes sont en société, ils perdent le sentiment de leur faiblesse ; l’égalité, qui était entre eux, cesse, et l’état de guerre commence. Chaque société particulière vient à sentir sa force ; ce qui produit un état de guerre de nation à nation. Les particuliers, dans chaque société, commencent à sentir leur force ; ils cherchent à tourner en leur faveur les principaux avantages de cette société ; ce qui fait entre eux un état de guerre ».

 

الفقرة الثانية: مضمون روح القوانين

يمكن أن نبيّن أربعة أجزاء كبرى في الكتاب:

الجزء الأول مكنون من الفصول الثلاثة عشرة الأولى التي تعيد العمل بنظرية تصنيف الأنماط الثلاثة المعرفة منذ أرسطو، وهي محاولة اختصار التعدّد الهائل لأنماط الحكم في ثلاثة نماذج، كل منها متميز بطبيعته وبمبدئه.

الجزء الثاني (الفصول 14 إلى 19) هيم الأسباب المادية والفيزيائية التي تؤثر على طبيعة الحكم، وهي تخص تأثير المناخ والأرض على الناس وعلى أعرافهم ومؤسساتهم.

الجزء الثالث (فصول 20 إلى 26) يهتم بالأسباب الاجتماعية (التجارة والنقد والديمغرافية والدين) وتأثيرها على الأعراف والتقاليد والقوانين.

الجزء الرابع الكتب: الأخيرة مخصصة لدراسات للعصر الروماني وللفيودالية.

الفصل 19 يهم المبدأ العام الذي يميز الأمة، وهو مبدأ الوحدة؛

الفصل   من الكتاب 11 حول دستور إنجلترا؛ وهذا الكتاب حرر بعد سفر مونتيسكيو إليها.

يمكن إذن اعتبار مونتيسكيو كفيلسوف اهتم بتصنيف أنماط الحكم، على غرار من ذهبوا صوب منهج أرسطو في هذا المجال، ويمكن اعتباره عالم اجتماع يبحث عن توضيح أثر عوامل متعددة على الأعراف والعادات وطبيعة الحكم والدين...

الفقرة الثالثة: تصنيف مونتيسكيو لأنماط الحكم:

يميز مونتيسكيو ثلاثة أنواع من الحكم:

-الجمهورية république

-الملكية monarchie     

-الاستبداد despotisme

كل من هذه النماذج معرّف بطبيعته وبمبدأ الحكم:

-         طبيعة الحكم هي التي يجعل منه ما هو عليه،

-         مبدأ الحكم هو الإحساس الذي يغذّي الأشخاص داخل نمط أو نموذج من لسلطة، لكي يشتغل هذا الأخير بطريقة منسجمة.

وهكذا، فالفضيلة هي مبدأ الجمهورية، وهذا لا يعني بأنّ الناس في الجمهورية يتحلّون حتما بالفضيلة، بل فقط أنه يجب عليهم ذلك، وأنّ الجمهوريات لا تكون مزدهرة إلاّ إذا كان الناس فضلاء.

وطبيعة كل نمط من الحكم تحدّد بعدد الأشخاص الذين يمتلكون قوة السّيادة:

-         فالحكم الجمهوري هو الذي يكون فيه الشعب كجسم، أو طرف منه، هو الذي يملك السيادة

(puissance souveraine)؛ والتمييز بين الجسم بأكمله والطّرف يمتّ إلى فرعي الحكم الجمهوري، اللذان هما الأرستقراطية والديمقراطية.

-         الحكم الملكي هو الذي يحكم فيه شخص واحد، ولكن طبقا لقوانين ثابتة ومستقرة، بمعنى وجود حدود للسلطة.

-         أمّا الاستبداد، فهو النمط الذي يحكم فيه شخص واحد، دون قواعد أو قوانين، ولكن فقط تبعا لإرادته الخاصة ونزواته.

ويمكن إذن أن نلاحظ انّ تصنيف مونتيسكيو تعتمد معيارين: عدد من يمتلك السلطة والطريقة التي تمارس بها.

وكل نموذج يتميّز بمبدأ، أو بإحساس؛ وهناك ثلاثة أنواع من الأحاسيس، كل منها يضمن استقرار النموذج الذي يلتصق به:

-         الجمهورية مرتبطة بالفضيلة،

-         الملكية مرتبطة بالشرف،

-         الاستبداد مرتبط بالخوف.

ولتوضيح المعيار، يمكن أن نقول أنّ:

-         الجمهورية مبنيّة على المساواة،

-         الملكية مبنيّة على التّمايز (وعدم المساواة)،

-         والاستبداد مبني على المساواة، لكن في العبودية،

والفضيلة الجمهورية ليست أخلاقية، بل سياسية محضة؛ فهي احترام القوانين وولاء الفرد للجماعة؛

والشرف هو احترام كل شخص لما هو ملزم به تجاه وضعه الاجتماعي statut social؛ فالحكم الملكي يفترض وجود الامتيازات privilèges والدرجاتrangs ، وكذلك نبل الأصول، لذلك يمكن أن نقول أن المساواة في نظر مونتيسكيو هي مساواة طبقية، وليست مطلقة؛ وإذا كان الطموح شيء قبيح في الجمهورية، فإنه محمود في الملكية.

والشرف ليس من مبادئ الاستبداد؛ ففي هذا النظام، الناس كلهم سواسية، لأنهم كلهم عبيد؛ والشرف لا يخنع أمام أحد، إلاّ بالقوانين التي هي أصلا غير موجودة في الاستبداد (كان مونتيسكيو يفكر في نموذج الاستبداد الشرقي التي كان يجسده السلاطين الثعمانيينOttomans  والفرس Persans).

الديمقراطية والارستقراطية نموذجين مختلفين ينتميان إلى النمط الجمهوري: هذا يقترب من النموذج الأرسطي، إلاّ أنّ أرسطو لم يعرّف، حسب مونتيسكيو، الملكية الحقيقية التي لم تتحقق إلاّ في الملكيات الأوربية. ومونتيسكيو يأخذ يعين الاعتبار التركيبة الاجتماعية للمجتمعات الأوربية في عصره، والتي يختلف تماما عن التركيبة الاجتماعية في عهد أرسطو؛ وهذا مهم جدا لأنه يبيّن أنه يحلل الأنظمة كما يفعل عالم الاجتماع السياسي، وهذا ما جعل "ريمون آرون" يعتبره من بين مؤسسي علم الاجتماع.

بالنسبة للمجال الترابي المناسب لكل دولة، يرى مونتيسكيو أنّ الملكية يجب أن يكون حجم إقليمها صغيرا، وأن يكون الامبراطورية كبير، وأن تكون السلطة فيها مستبدة.

الفقرة الرابعة: الحرية عند مونتيسكيو:

خص£ص مونتيسكيو الفصلين الثاني والثالث من الكتاب الحادي عشر من روح القوانين إلى مشكلة الحرية,

"في الديمقراطية، يبدو وكأنّ الشعب يفعل كل ما يريد، ولكن الحرية السياسية ليست أن يفعل المرء ما يرى (...)؛ الحرية هي الحق في فعل كل ما تسمح به القوانين، لأنّه إذا كان بإمكان الفرد أن يفعل كل ما تمنعه، لكنّا مجبرين، إدّاك لن تبق لديه حرية، لأنّ الآخرين ستكون لديهم نفس القدرة.

"فالدستور، يكتب مونتيسكيو، يجب أن يضمن ألاّ يجبر أحد على فعل أشياء لا تجبره على فعلها القوانين، وكذلك ألاّ يفعل الأشياء التي تسمح بها، إن أراد ذلك".

والحرية السياسية هي كذلك أن يشعر المواطن بالأمان، وهي أن تعمل الحكومة على ألاّ يخيف مواطنا مواطن آخر.

ما هي نتائج هذا على المجال السياسي؟

الفقرة الخامسة: الفصل بين السلط اضمان الحرية

تبيّن لنا التجربة أنّ كل من لديه سلطة، يميل إلى سوء استعمالها؛ و لكي  لا تستعمل بشطط، "يجب أن  توقفها سلطة أخرى".

إذا اجتمعت في نفس الشخص، أو نفس الجسم، السلطتين التشريعية والتنفيذية، ليس هناك حرية سياسية، إذ يمكن أن يقوم من لديه السّيادة (السلطة) بسنّ قوانين مستبدّة وتطبيقها بنفسه.

ليس هناك حرية إذا يم يفصل القضاء عن السلطة التشريعية: "إذا اجتمعت السلطة القضائية والسلطة التشريعية، ستكون السلطة على حياة المواطن وعلى حريته عشوائية؛ وإذا اجتمعت مع السلطة التنفيذية ستعطي للقاضي سلطة غير عادلة (...) وسيضيع كل شيء إذا اجتمعت السلطات الثلاث في نفس الشخص،

في نفس الشخص، أو نفس الجسم، سلطة سنّ القوانين، وسلطة تنفيذها وسلطة القضاة بين الناس".

لذلك يجب أن يكون هناك فصل بين السلطات الثلاث؛ ولكن، بما أنّ كل واحدة منها لديها القدرة على إيقاف الأخرى، ستكنّ مجبرات على العمل معا، على التعاون؛ وبهذا يتبيّن لنا أنّ مونتيسكيو وضع الأسس النظرية للنظام البرلماني المبني على تعايش السلطات الثلاث. وقي هذه النقطة بالذات نجد بينه وبين "جون لوك " اختلافا طفيفا، حيث أنّ هذا الأخير لا يتكلم إلاّ عن سلطتين.

>>لن نتكلم عن نظرية المناخ وعن العبودية في نظر مونتيسكيو

 المطلب الثاني: جون لوك John Locke   1632-1704

يعدّ جون لوك من أكبر ممثلي التيار الليبرالي؛ لذلك ربط نظريته حول العقد الاجتماعي بهدف حماية الملكية الخاصة؛ "إنّ الناس يتوخّون، حين يكوّنون مجتمعا، أن ينعموا بملكيتهم في أمان وسلم". لذلك يحتاج الناس إلى حكم arbitre تسند إليه مهمة حلّ النزاعات التي يمكن أن تظهر بينهم؛ لذلك، فإنّ أول عمل يقوم به الناس حين يكوّنون "مجتمعا" Commonwealth هو إنشاء سلطة تشريعية يخوّل لها سلطة وضع قوانين يخضع لها الجميع.

إنّ وجود هذه السلطة التشريعية أساسي لدى جون لوك؛ إنّها مقدّسة في نظره؛ فهي التي تسمح بالتمييز بين حالو الطبيعة وحالة المجتمع المدني، وبالتالي فهم ماذا يعني السياسي. حين يجتمع الناس على هذه الطريقة يصبحون في حالة يسود فيها القانون الوضعي، عوض القانون الطبيعي:

"إن الناس يمرون من حالة الطبيعة إلى المجتمع المدني حين يؤسسون حكما arbitre قادرا على حل النزاعات ورفع الظلم الذي يمكن أن يطال أحد أعضاء المجتمع؛ هذا الحكم هو المشرع، أو القضاة الذين يعيّنهم". فالمشكل إذن هو المرور من حالة الطبيعة إلى حالة وجود جسم سياسي وقانوني؛ وحالة الطبيعة لا تنفي وجود أنواع أخرى من التجمّع، ولكن المعيار الأول عن حالة الطبيعة هو عدم وجود حكم arbitre ، و تأسيس هذه الوظيفة يعني المرور إلى المجتمع المدني.

وتبقى النظرية التي طورها جون لوك حول السلطة التشريعية مبهما بعض الشيء، حيث أنّه لم  يفصّل بطريقة واضحة وحاسمة ما يعنيه بالتشريعي؛ الغالب أنه يعني بالسلطة السلطة التشريعية تلك السلطة المؤسسة التي تواكب المجتمع السياسي والمدني، والتي لا يمكن أن يتكوّن بدونها؛ وهي سلطة التشريع التي يملكها المجتمع ويزاولها عبر الأغلبية المنتخبة من طرفه؛ وهكذا، يتحول الحسم المجتمعي إلى حكم. وهذا المفهوم هو الغالب على كتابه Second traité du gouvernement civil؛ يجعل جون لوك من الشعب الجماعة التي تمتلك السيادة.

"إن الله خلق الإنسان، وجعل منه بالفطرة إنسانا ميّالا إلى الحياة في المجتمع؛ خلق الله الرجل والمرأة، ثم الأولاد، وبعد ذلك مجتمع الأسياد والعبيد (الخدم)، إلاّ أنّ هذه الأنواع من التجمعات لا تكوّن مجتمعا سياسيا، أو دولة. فعلاقة السيد بالعبيد لا يمكن أن تعبّر عن حالة مجتمع مدني أو سياسي، لأن العبيد الذين أصبحوا كذلك بعد حرب عادلة ومشروعة فقدوا حقهم في الحياة وفي الملكية، وبالتالي لا يمكنهم أن يكونوا أعضاء في المجتمع المدني الذي هو مجتمع أحرار.

الفقرة الأولى: ما هو المجتمع السياسي؟

الناس ولدوا أحرارا وسواسية (نفس المنطلق الذي سنجده عند روسو) ويتزفرون على الحق في التمتع في كل هدوء وطمأنينة بجميع الحقوق والامتيازات التي منحتهم إياها القوانين الطبيعية، الحق في الحفاظ على ممتلكاتهم وحريتهم وثرواتهم، والدفاع عنها ضد كل من حلول الاعتداء عليها، وكذلك الحق في معاقبة الجريمة، حتى بعقوبة الإعدام، إذا كامت الجريمة تستحق ذلك.

والمجتمع السياسي هو الذي يتنازل أعضاؤه عن حقهم الطبيعي لصالح المجتمع المدني، وبهذا التنازل يصبح المجتمع هو صاحب السيادة ومكمنها؛ تسنّ القوانين باسمه، وتخوّل لبعص الأشخاص مهمة تطبيقها.

"إنّ الذين يكوّنون جسما واحدا، الذين لديهم قوانين مشتركة وقضاة يمكنهم اللجوء إليهم، قضاة لديهم سلطة إنهاء النزاعات ومحاكمة ومعاقبة كل من يقترف جريمة ضد المجتمع، هؤلاء هم الذين يعيشون حالة المجتمع؛ ما عدا ذلك، ليس هناك إلاّ حالة الطبيعة".

ما يحدد، إذن، المجتمع المدني هو وجود سلطة حل النزاعات ومعاقبة الجرائم التي تطال حياة وحرية وممتلكات الأفراد؛ ويبقى لوك مبهما حين يقول "هذه هي السلطة التشريعية"(فقرة 88).

ولا يعدّ أعضاء في المجتمع المدني إلاّ الذين أرادوا الدخول في هذا المجتمع من أجل تكوين جسم سياسي، أو شعب، تحت سلطة حكومة، تمنح لها السيادة، وكذلك الذين التحقوا بهذا المجتمع وقبلوا السلطة التي يتوفر عليها القضاة وأصحاب الأمر في مجال وضع القوانين، طبقا لما تفتضيه المصلحة العامة.

يصنّف جون لوك من ضمن الفلاسفة الليبراليين الذين يتبنون الفكر الليبرالي ليس فقط في الجانب الاقتصادي، ولكن كذلك في الجانب السياسي:

يرى بأنّ الملكية المطلقة ليست مناسبة للمجتمع المدني، ولا يمكن أن تصنّف كنمط من الحكم المدني.

إنّ الملكية المطلقة التي تحتكر كلا السلطتين تعدّ من حالة الطبيعة، هي والرعايا الذين تمارس عليهم سلطتها.

الفقرة الثانية: الأهداف من وراء المجتمع المدني:

الهدف الأساسي منه هو الحفاظ على ممتلكات الناس:

1-   في حالة الطبيعة، تنقص قوانين ثابتة، ومؤسسة، ومتفق عليها تحدّد الحق من عدمه، وتوضح ما هو العدل، وما عكسه؛ وهذا لا يعني أن هذه القوانين غير موجودة في حالة الطبيعة، بل فقط أنّ الناس غير واعين بضرورتها وبإلزامية احترامها، وهنا نلمس مرة أخرى عدم الوضوح، إن لم نقل تناقض عند "لوك".

2-   ينقص في حالة الطبيعة سلطة قادرة على تطبيق الأحكام وتنفيذها؛ وبالتالي لا بد أن يتنازل الأفراد عن لسطاتهم لصالح سلطة (الحاكم) ليقوم بتلك المهمة.

3-   ينقص في حالة الطبيعة حكما (القضاء) معترفا به، يكون محايدا، ولديه سلطة حل النزاعات بين الأفراد.

الفقرة الثالثة: أنماط السلطة

ونرى من خلال ما سبق أن جون لوك يكرر، على مدى عشرات الصفحات من كتابه، نفس الأفكار ولا نلمس كثيرا من الوضوح في تعريفه لكل من السلطتين التشريعية والتنفيذية.

إذا ظن أحد أنّ السلطة المطلقة ترفع من قيمة الإنسان، يكفي قراءة التاريخ لكي يقتنع بالعكس؛ إن أكثر البشر بدائية لن يصبح أفضل بمجرد أن يتولّى السلطة، خاصة إذا استعمل الدين من أجل تبرير ما يقوم به تجاه رعاياه؛ فأي نوع من الرعاية يمكن أن يوفّرها حاكم مطلق؟

الفقرة الرابعة: أنماط المجتمعات:

يميّز جون لوك بين ثلاثة أنماط من الحكم:

-         الديمقراطية، وهي حكم الشعب (المجتمع السياسي) (فقرة 132)، والذي تعيّن فيه الأغلبية من يكلّف بسنّ القوانين ومن يكلّف بتنفيذها؛

-         الأرستقراطية، التي تضع السلطات بين أيدي فئة، أو أقلية من الناس؛

-         الملكية، وهي الحلة التي تعطى فيها السلطة إلى شخص واحد؛ ويمكن أن تكون الملكية وراثية، وأن

-         تكون انتخابية (كما كان عليه الأمر في الإمبراطورية الرومانية الجرمانية، مثلا.

الفقرة الخامسة: في الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية (الفصل العاشر)

على الرغم من أنّ السلطة التشريعية وضعت في يد شخص واحد، أو مجموعة من الناس، بصفة دائمة، أو فقط بصفة انتقالية، إلاّ أنّ هذه السلطة لا يمكن أن تمارس بصفة عشوائية على أفراد المجتمع وعلى ممتلكاتهم؛ هذه السلطة ليست إلاّ سلطة كل فرد من المجتمع, إنّ الهدف من السلطة، يكرر مرة أخرى لوك، هو الحفاظ على الحريات وعلى الممتلكات، وليس التدمير أو تحويل أعضاء المجتمع إلى عبيد، أو تفقيرهم؛ إن التزامات حالة الطبيعة لا تنقضي، مما يعني أن هناك حقوق طبيعية يجب الحفاظ عليها، أما حالة المجتمع السياسي، فتنشئ مؤسسات للحفاظ عليها.

إذا كانت توضع القوانين بهدف الحماية، فإنه يجب كذلك الاّ تكون منافية لقوانين الطبيعة، أي للإرادة الإلهية التي هي مجرد إعلان لها؛ والهدف الأساسي من القانون الطبيعي هو الحفاظ على الجنس البشري.

هل ترك الناس حالة الطبيعة وحرياتها من أجل أن يستعبدوا في مجتمع هم مؤسسوه؟

لا يجب أن تتنازل السلطة التشريعية عن اختصاصها بوضع القوانين لأي طرف آخر، لأنّ السلطة ملك للشعب الذي لديه وحده صلاحية اختيار من سيكلفه بممارستها.

بما أن القوانين يجب أن تتّسم بالثبات والاستقرار، وأن تكتسي طابع الإلزامية بالنسبة للجميع (وفي هذا نجد مبدأ دولة القانون)، لا بدّ من وجود سلطة توكل إليها مسؤولية تنفيذها؛ ولهذا يتم الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.

حين تكون السلطتين التشريعية والتنفيذية بين أياد مختلفة، كما هو الشأن في الملكيّات المعتدلة، تقتضي المصلحة العامة أن تترك عد’ مجالات بيد السلطة التنفيذية لأن السلطة التشريعية غير قادرة على أن تهتم بكل شيء؛ وفي هذا يكمن مبدأ توزيع الاختصاصات بين السلطتين. في حالة صمت أو غياب القانون، يكون لدى السلطة التنفيذية سلطة القرار (وفي هذا نجد جذور مبدأ عقلنة النظام البرلماني، من خلال تحديد الدستور لمجال لقانون، أي مجال اختصاص البرلمان، وترك الباقي لاختصاص السلطة التنفيذية).

ويمكن أن تتمتع السلطة التنفيذية بامتيازات، مثل ما يقع في إنجلترا: استدعاء البرلمان، تحديد جدوا اعمال مجلس العموم، ومكان اجتماعه، ولكن هذه الامتيازات لا تجد تبريرها إلاّ في خدمة المصلحة العامة.

ولكن، عند لوك، توجد قوة أخرى، وهي أن المجتمع يكوّن جسما واحدا، إذا ما تم المساس بفرد واحد منه، يتداعى الجسم بأكمله لذلك، ويطالب بردّ الاعتبار، أو برفع الظلم أو الضرر؛ وهذا المبدأ هو الذي يتأسس عليه قانون الحرب؛ وهذه القوة، التي أسماها بالسلطة الموحدة pouvoir fédératif التي تسمح للمجتمع أن يحدد مواقفه من الدول الأخرى، وهي ضرورية لأنّها أساس المحافظة على مصالح الدولة في مواجهة الدول الأخرى.

المطلب الثالث: جان جاك روسو 1712-1778

1. بأي حق يحكم الدين يمارسون السلطة؟ وطبقا لماذا يطيع الناس أوامر السلطة؟

من أجل معرفة أفكار روسو حول الموضوع، يمكن الاكتفاء بكتابه "العقد الاجتماعي" Le contrat social، ولكن يمكن الاستعانة بكتيب "خطاب حول أصول التفاوت بين الناس".

الفقرة الأولى: في مسألة عدم المساواة:

يميز روسو بين صنفين من عدم المساواة:

-عدم مساواة بيولوجية، طبيعية، ونجدها في كل الأزمنة وكل الأماكن، فهي كونية؛

-عدم مساواة سياسية وسياسية، وهي تختلف حسبا الأزمنة والأماكن، وهي ثقافية.

فما هي جذور عدم المساواة السياسية؟

يمكن أن نفكّر، يكتب روسو، أنّها ليست إلاّ نتيجة عدم المساواة الطبيعية.

وأنّ الأقوى هو الذي يصبح الأكثر ثروة والأكثر سلطة، ولكن الأمر ليس كذلك: إنّ الذين يتوفرون على السلطة ويحكمون ليسوا أفضل طبيعة من الذين يخضعون لها. ما يكتبه روسو في أصول عدم مساواة السياسية يختلف تماما عمّا كتبه عن الأحقية الطبيعية المزعومة الأرستقراطية، ولا يختلف كثيرا عن نظرية "إتيين دو لابويسي" في خطابه حول العبودية الإرادية discours sur la servitude volontaire؛ إنّ الذين يحكمون لا يتوفرون على السلطة بحق إلهي أو طبيعي، يكتب روسو.

كيف إذن وصل الشعب إلى حالة أدخل فيها نفسه في شباك العبودية؟

يصف روسو الإنسان في حلة الطبيعة بأنّه كان قوي، ولكن كذلك ضعيفا بالنسبة للحيوانات الأخرى، وبانّه كذلك أكثر نظاما منها، فالإنسان في حالة الطبيعة لا يميز بين الخير والشر، وهو ليس بكائن أخلاقي، ولا يهتم بتلبية حاجياته من الأكل والتناسل والراحة. وكانت تحكمه غريزتان: الشعور بالشفقة تجاه الأخرين والحفاظ على نفسه.

أمّا عدم المساواة، فهي لم تكن جليّة في حالة الطبيعة.

وبعد ذلك يهتم روسو بجذور عدم مساواة:

"إنّ أوّل من سيّج أرضا، وأمكن له أن يقول "هذه لي"، ووجد أناسا من السذاجة مي يكفي لكي يصدقوه، كان هو المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني (...) كان يمكن لإنسان أن يكفي الآخرين شر الحروب والفظائع لو هبّ و اقتلع الأوتاد أو ردم الحفرة وصاح: حذار أن تصغوا إلى هذا المحتال، فإنّكم لهالكون، لو نسيتم أنّ الثمار للجميع، وأنّ الأرض ليست ملكا لأحد"؛

" «Le premier qui, ayant enclos un terrain, s'avisa de dire : Ceci est à moi, et trouva des gens assez simples pour le croire, fut le vrai fondateur de la société civile. Que de crimes, de guerres, de meurtres, que de misères et d'horreurs n'eût point épargnés au genre humain celui qui, arrachant les pieux ou comblant le fossé, eût crié à ses semblables : Gardez-vous d'écouter cet imposteur ; vous êtes perdus, si vous oubliez que les fruits sont à tous, et que la terre n'est à personne. Mais il y a grande apparence, qu'alors les choses en étaient déjà venues au point de ne pouvoir plus durer comme elles étaient ; car cette idée de propriété, dépendant de beaucoup d'idées antérieures qui n'ont pu naître que successivement, ne se forma pas tout d'un coup dans l'esprit humain. Il fallut faire bien des progrès, acquérir bien de l'industrie et des lumières, les transmettre et les augmenter d'âge en âge, avant que d'arriver à ce dernier terme de l'état de nature. Reprenons donc les choses de plus haut et tâchons de rassembler sous un seul point de vue cette lente succession d'événements et de connaissance, dans leur ordre le plus naturel [35]»

 ويبدو من هذا أنّ روسو يرجع جذور التفاوت بين الناس إلى الملكية؛ في زمنه، ملكية الأراضي.

3. حالة الطبيعة:

إضافة إلى ما تمت الإشارة إليه في البداية حول الإنسان في حالة الطبيعة، يمكن القول أنّ هذه الحالة مجرّد فكرة، أو تصوّر، لم يوجد قط في الحقيقة؛ إنها هنا فقط من أجل تبرير طبيعة العقد الاجتماعي الذي سينبني عليها روسو نظريته للمجتمع، وللنظام السياسي الذي يراه الأمثل، وهو النظام الذي تسود فيه الإرادة العامة التي يعبّر عنها القانون.

إنّ المشكل الأساسي لدى روسو هو البحث عن المبادئ التي يمكن أن يؤسس عليها نظريته السياسة؛ إنّه كان يريد أن يعرف ماذا أعطاه المجتمع للإنسان، ماذا أضاف عنه من جديد بالنسبة لما كان لديه في حالة الطبيعة.

الفقرة الثانية: حالة الطبيعة وحالة المجتمع

 إنّ المرور من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع المدني أسفر عن تحوّل ملموس في حياة الإنسان: "إذا كان الإنسان قد فقد عدة امتيازات كان يستمدّها من العيش في الطبيعة، فإنّه كسب أشياء أكبر منها: لقد تنامت قواه وأحاسيسه وارتفعت روحه، ولذلك أن يكون سعيدا بهذه اللحظة التي أخرجته من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع المدني": "إنّ المرور من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع المدني أنتج لدى الإنسان تحوّلا ملموسا بتغييره لغريزته واستبدالها بالإحساس بالعدالة، وإعطاؤه لسلوكياته ما كان ينقصها من حسّ أخلاقي".

Ce passage de l'état de nature à l'état civil produit dans l'homme un changement très remarquable, en substituant dans sa conduite la justice à l’instinct, et donnant à ses actions la moralité qui leur manquait auparavant (…) Quoiqu'il se prive dans cet état de plusieurs avantages qu'il tient de la nature, il en regagne de si grands, ses facultés s'exercent et se développent, ses idées s'étendent, ses sentiments s'ennoblissent, son âme tout entière s'élève à tel point que, si les abus de cette nouvelle condition ne le dégradaient souvent au-dessous de celle dont il est sorti, il devrait bénir sans cesse l'instant heureux qui l'en arracha pour jamais et qui, d'un animal stupide et borné, fit un être intelligent et un homme »

4. العقد الاجتماعي:

 يبدأ روسو بوصف المجتمعات البدائية، ويرى بأنّ أقدمها هي الأسرة، ولكن هذا النوع ينتهي بمجرد انتهاء احتياج الأطفال لأبيهم، وبمجرد أن يصبح كل فرد مستقل بنفسه، ويصبح الكل متساويا؛ فإذا أرادوا الأفراد المستقلين البقاء في الأسرة، سيكون ذلك بمحض إرادتهم، دون اتفاق أو عقد، وسيكون آنذاك حرية مشتركة؛ وهذه ليست إلاّ نتاج لطبيعة الإنسان. إنّ قانون الإنسان الأول هو الحفاظ على النفس، وبمجرد أن يصبح راشدا، يصبح سيّد نفسه.

والأسرة هي النموذج الأول للمجتمعات السياسية، إلاّ أنّ سلطة الأب مبنيّة على الحب الذي يكنّه الأبناء لأبيهم، والأب لأبنائه.

وينتقد روسو طوماس هوبس (وقبله آرسطو) الذي يرى في الحاكم نموذجا للقائد الذي يحكم الآخرين كأنهم قطيعا من الأغنام؛ فهو يرى أنّ الناس ولدوا أحرارا ومتساوين، عكس هوبس وآرسطو والفلاسفة الذين يرون عكس ذلك، وأنّ هناك من يولد من أجل العبودية، ومن يولد ليكون من الأسياد.

يرى روسو أنّ هناك من استعبد بالقوة، وتعوّد بعد ذلك على العبودية: هل يمكن لأحد أن يبيع نفسه، أو يتنازل عن حريته أو حرية أبناءه؟

هذا غير مشروع لأنّ الناس ولدوا أحرارا.

لذلك، لا يجوز لشعب أن يتنازل عن حريته؛ إنّ هذا سيكون من الحمق، والحمق لا يبنى عليه الحق.

لا يجوز للشعب أن يتنازل عن حقه في السيادة؛ والسيادة لا تتجزّأ، ولا يسمح بتفويضها لأحد.

كذلك، لا يقبل روسو بتبرير العبودية بالحرب لأن هذا يخالف قوانين الطبيعة؛ فالحرب ليست علاقة إنسان بإنسان، بل علاقة دولة بدولة أخرى.

أكّد روسو أكثر من مرة أن القوة لا يمكن أن تبرر السلطة، وأنّ أقوى الناس لا يمكن أن يكون قويا بما فيه الكفاية لكي يصبح سيّد الناس، أذا لم تتحوّل قوّته إلى حق، وطاعتها إلى واجب.

إنّ الخضوع للقوة (بالعنف) لا يمكن أن يكون فعلا إراديا، بل فقط ناتج عن الحاجة، أو عن الحذر والخوف.

يفترض روسو، حين يريد تقديم فكرة العقد الاجتماعي، أنّ حالة الطبيعة أصبحت خطيرة على حياة الإنسان لأنه لم يعد قادرا على المقاومة كفرد معزول؛ لذلك توجه الناس نحو تجمّع قواهم وتكوين مجتمعات من أجل الحفاظ على أنفسهم:

"وجود نوع من التّجمّع يمكّن الإنسان من الحفاظ على نفسه، وكل عضو من الحفاظ على ممتلكاته، بحيث ما إذا أطاعه (ألمجتمع) الفرد فإنّه لا يطيع إلاّ نفسه، ومع ذلك يبقى حرّا كما كام من قبل".

وفكرة أنّ الفرد حين يطيع المجتمع أو القانون، إنما يطيع نفسه لأنّهما منبثقان عنه توجد لدى كثير من الفلاسفة الذين يرون في المجتمع (أي في كل أعضائه) مصدر السيادة، خاصة منهم "إيمانويل كانط".

إن بنود العقد الاجتماعي محددة بطبيعته؛ فهو عقد بين أفراد أحرار، ولا يحتمل التّغيير، ولا أن يتراجع عنه أحد؛ المهم هو أنّ كل واحد يسلّم نفسه للجميع، وليس لأحد بالذات.

الفقرة الثالثة: العقد الاجتماعي

ويمكن تلخيص هذا العقد كما يلي، عند روسو:

"كل واحد يضع نفسه شركة مع الجميع، وكل قوّته تخضع لسلطة الإرادة العامة، وكل عضو من المجتمع يعتبر جزءا لا يتجزّأ من الجسم الاجتماعي".

 وهذا الجسم هو الذي تكمن فيه السيادة، ويتكوّن من كل الذين قرروا الاتّحاد بطريقة إرادية؛ إنّ العقد يهدف إلى الحفاظ على المتعاقدين، القبول بهذه الغاية، يعني القبول بالوسيلة التي هي الامتثال إلى كل ما يصدر من قرارات من الجسم للاجتماعي، وإن كانت على شكل أخطار كالحروب، مثلا.

والناس لا يتنازلون عن حريتهم إلاّ من أجل المصلحة العامة، مع العلم أنّ التنازل عن الحرية لا يعني فقدانها، طالما أنّ الفرد يطيع نفسه حينما يطيع المجتمع الذي كان هو من مؤسسيه.

ولهذا، كان يرى روسو أنّ الشعوب أعطت لنفسها قادة لكي يدافعوا عن حريتها، وليس من أجل أن يستعبدونها:

"إن كان لدينا أمير، فذلك من أجل أن يقينا من أن يكون لنا سيّد".

كل ما يفقده الإنسان في العقد الاجتماعي هو حريته الطبيعية، ولكنه يربح الحريت المدنية وكذلك الحرية الأخلاقية التي، وحدها، تجعل الإنسان سيّد نفسه، لأنّ اتّـباع الثروات يؤدّي إلى العبودية، بيد أنّ طاعة القوانين التي وضعها الإنسان تعني الحرية.

إنّ الهدف الأساسي من وجود الجسم الاجتماعي هو تحقيق حرية أفراده والحفاظ عليها. والإنسان أكثر حرية حين يعيش في المجتمع؛ إنّ الإكراهات التي يفرضها العيش في المجتمع هي الشرط والثمن الذي يؤدّيه الفرد من أجل ضمان حريته.

الفقرة الرابعة: ما هو القانون؟

لكي يصبح حقيقة، لابدّ للجسم الاجتماعي أن يعطي لنفسه قوانين تحكمه؛ وكل قرار للجسم الاجتماعي يشكّل قانونا.

ولكن كلمة "قانون" تعني القرارات التي تنظم الحياة الاجتماعية بشكل دائم؛ ولكي يكون القانون مشروعا، لا بدّ من بعص الشروط:

-         يجب أن يكون الجسم الاجتماعي سيّد نفسه، يمكنه وضع القوانين وإلغاؤها، ولا يكون ملزما تجاه أحد.

-         لا يمكن مناقشة القوانين دون احترام حرية تعبير الجميع؛

-         يجب أن يكون القانون ذو طابع عام وعادل، وأن يراعي المساواة؛

-         القانون هو التعبير الأسمى عن الإرادة العامة.

الفقرة الخامسة: في الحكومة:

يميّز روسو في الجسم الاجتماعي سلطتين:

-السلطة التشريعية، التي هي ملك للشعب وحده، دون غيره،

السلطة التنفيذية التي تحقق وتنفذ الإرادة العامة التي يعبّر عنها القانون.

,ما هي الحكومة؟

هي جسم وسيط بين الشعب (صاحب السيادة) والرعايا، وهي مكلفة بتنفيذ القوانين؛ ويسمّي روسو "حكومة" الممارسة المشروعة للسلطة التنفيذية؛ والمصطلحات المستعملة من طرف روسو يمكن أن تبعث على بعض الحيرة، نظرا لكونها تدل على أشياء ومؤسسات لم يبق لها نفس المعنى الآن؛ وهكذا يستعمل مصطلح "أمّة" للدلالة على الحكومة، السلطة التنفيذية، ويستعمل الشعب والدولة للدلالة على نفس الجسم الدي هو الشعب وصاحب السيادة (...) وهذا ما نجده عند الكثير من الفلاسفة قبل القرن التاسع عشر.

ويقدم روسو بدوره تصنيفا للأنظمة السياسة يمكن أن نلخصه كما يلي:

الفقرة السادسة: تصنيف الأنظمة عند روسو

1.    الديمقراطية:

إذا أخذنا المفهوم بالمعنى الضيق، يمكن القول بأنّ هذا النظام لم يوجد أبدا، ولن يوجد، في نظر روسو.

ويرى أنّه مخالف للطبيعة بأن يحكم الأكثرية وأن تنصاع لحكمها الأقلية. ثم أنّ صاحب السيادة والحاكم، "الأمير"، سيكون نفس الشخص؛ وهذا كذلك غير مقبول لأنه سيعطي "حكومة بدون حكومة"، لأنّه من غير المقبول أن يكون من يضع القوانين هو نفسه من ينفّذها. ثم أنّ الديمقراطية، في الحقيقة، لا تليق بالإنسان: "لو كان هناك شعب من الآلهة لحكموا أنفسهم بطريقة ديمقراطية" ولكن البشر لا يقدروا على ذلك. على الأكثر، يمكن أن تليق الديمقراطية بشعب صغير.

2.    الأرستقراطية:

الشعوب الأولى كانت محكومة بطريقة أرستقراطية، حيث كان كبار العائلات هم اذين يتداولون في الشؤون العامة، ويتخذون القرارات.

وهناك ثلاثة أصناف من الأرستقراطية: طبيعية وانتخابية ووراثية. والانتخابية أحسنهم لأنّ النظام الأفضل هو أن يحكم من هم الأكثر حكمة، شريطة أن يحكموا لصلح الشعب، وليس من أجل مصالحهم الخاصة.

ويجب ألاّ تكون الفوارق في الثروة كبيرة بين الفقراء والأثرياء؛ كما يجب أن يقبل الفقراء بحكم الأثرياء، بذلك ستكون سلطتهم مشروعة. ويبرر روسو حكم الأثرياء من الشعب فقط، لأن لديهم القت لذلك، ليس لكونهم مفضلين طبيعيا لذلك، كما كان يظن أرسطو.

3.    الملكية:

 ملكية هي نظام تتركز فيه سلطة الحكم بشكل رسمي في يد رجل واحد، الملك. ينتقد روسو هذا النظام بشدة، لأنّ المصلحة العامة فيه تأتي في المرتبة الثانية بعد مصالح الملك وحاشيّته. بهذا المعنى، فإن روسو في يشترك في موقفه مع العديد من المفكرين الذين يقفون ضد السلطة الملكية المطلقة.

المبحث المبحث الرابع: الحرية والديمقراطية

المطلب الأول:  بنيامين كونستات Benjamin Constant

ولد في مدينة "لوزان" السويسرية، سنو 1767، وعاش في كنف الثورة الفرنسية، إذ عايش فترة الثورة، ثم فترة الإمبراطورية الأولى، وكان من أبرز رجال السياسة بعد انهيار الإمبراطورية، وعودة الملكية سنة 1814؛ انتخب نائبا سنة 1818 كرئيس للمعارضة اللبرالية في البرلمان.

وساهم في تطور الفكر اللبرالي، على الصعيد الساسي، يعتبر من أبرز منظري الديمقراطية في العصور الحديثة.

كان من أكبر المدافعين عن النظام البرلماني، وأسهم بتأثيره في بناء النظرية السياسية التي ستكون وراء بناء الدولة اللبرالية في فرنسا. كما كان من أكبر المدافعين عن الحرية، التي يعتبر ركيزة النظام الليبرالي.

الفقرة الأولى: نظرية "كونستانت" للحرية

ميّز بين صنفين من الحرية: حرية القدامى، وحرية المحدثين، وهذا التنظير لم يقم به أحد قبله.

يرى "كونستانت" أن النظام البرلماني الذي عرفه الفرنسيون بعد الثورة كان شيئا جديدا، لم يكن بوسع القدامى لا معرفته، ولا الإحساس بضرورته؛ وهذا النظام مبني على حق كل واحد في  أن لا يخضع إلاّ للقوانين، بألاّ يتمّ توقيفه، أ, سجنه، أو قتله، أو تعذيبه؛ وهو حق كل واحد في أن يبدي برأيه، وأن يختار حرفته، وأن يتمتع بملكيته كما يريد، ويذهب أينما شاء بدون طلب ترخيص من أحد؛ وهو كذلك حق المرء في التجمّع، وممارسة ديانته، أو تتبع نزواته؛ وأخيرا هو حق كل حكومته، إمّا فيما يخص تعيين الموظفين، أو بتقديم عرائض تلزم الإدارة بأخذها بعين الاعتبار.

1.    ما هي حرية القدامى؟

كانت تكمن حرية القدامى في الممارسة الجماعية للسيادة، وفي المشاركة في النقاش في المجال العام حول مسائل الحرب والسلم، وفي التصويت على القوانين والأحكام، وتوزيع السلطة؛ ولكن القدامى كانوا كذلك يقبلون إلى جانب هذه الحرية الخضوع الجماعي للسلطة ( إلى سلطة الجماعة)؛ فلأفعال الفردية كانت مراقبة بطريقة صارمة، ولم يكن لدى الفرد أي استقلالية؛ فحرية الدّين، مثلا، كانت غائبة، و المساس بالعقيدة كان جريمة, وسلطة الجماعة كانت تلغي إرادة الفرد وحريته. فالقوانين كانت تحدد الأعراف؛ وبما أنّ هذه الأخيرة تهم كل شيء، لم يكن يوجد شيء خارج الأعراف.

Celle-ci consistait à exercer collectivement, mais directement, plusieurs parties de la souveraineté toute entière, à délibérer, sur la place publique, de la guerre et de la paix, à conclure avec les étrangers des traités d’alliance, à voter les lois, à prononcer les jugements, à examiner les comptes, les actes, la gestion des magistrats, à les faire comparaître devant tout le peuple, à les mettre en accusation, à les condamner ou à les absoudre ; mais en même temps que c’était là ce que les anciens nommaient liberté, ils admettaient comme compatible avec cette liberté collective l’assujettissement complet de l’individu à l’autorité de l’ensemble. Vous ne trouvez chez eux presque aucune des jouissances que nous venons de voir faisant partie de la liberté chez les modernes. Toutes les actions privées sont soumises à une surveillance sévère. Rien n’est accordé à l’indépendance individuelle, ni sous le rapport des opinions, ni sous celui de l’industrie, ni surtout sous le rapport de la religion. La faculté de choisir son culte, faculté que nous regardons comme l’un de nos droits les plus précieux, aurait paru aux anciens un crime et un sacrilège.

2.    ما هي حرية المحدثين؟

حرية الإنسان الحديث هي الحرية الفردية، وحرية القول والتفكير بما يريده المرء، والحرية الدينية، وحرية التملك، والعمل والتجارة وإلغاء العبودية، الذي سمح للمواطنين بحرية النقاش، والميل إلى استبدال الحرب بالتجارة، والمطالبة بالاستقلالية الفردة والخصوصية: كل هذه التغييرات تفسر الانتقال من مفهوم للحرية إلى مفهوم آخر....

« Demandez-vous d’abord, Messieurs, ce que, de nos jours, un Anglais, un Français, un habitant des États-Unis de l’Amérique, entendent par le mot de liberté. C’est pour chacun le droit de n’être soumis qu’aux lois, de ne pouvoir être ni arrêté, ni détenu, ni mis à mort, ni maltraité d’aucune manière, par l’effet de la volonté arbitraire d’un ou de plusieurs individus : c’est pour chacun le droit de dire son opinion, de choisir son industrie, et de l’exercer, de disposer de sa propriété, d’en abuser même ; d’aller, de venir sans en obtenir la permission, et sans rendre compte de ses motifs ou de ses démarches. C’est, pour chacun, le droit de se réunir à d’autres individus, soit pour conférer sur ses intérêts, soit pour professer le culte que lui et ses associés préfèrent, soit simplement pour remplir ses jours ou ses heures d’une manière plus conforme à ses inclinations, à ses fantaisies. Enfin, c’est le droit, pour chacun, d’influer sur l’administration du Gouvernement, soit par la nomination de tous ou de certains fonctionnaires, soit par des représentations, des pétitions, des demandes, que l’autorité est plus ou moins obligée de prendre en considération. »

أ‌.       ما هي جذور الفرق بين صنفي الحرية؟

الدويلات القديمة كانت منغلقة على نفسها في حدود ضيقة، كان يغلب عليها الطابع الحربي، وبهذا كانت كلها تمارس العبودية؛ أما التجارة، فكانت ممكنة فقط حين تغيب القوة، لأنّ الأقوى لا يحس أبدا بضرورة التجارة؛ فهو يأخذ ما يريد بالقوة (النهب والسبي والاحتلال).

أمّا في العصر الحديث، فقد أصبحت التجارة هي الحالة الطبيعية، وأصبحت هي الهدف الوحيد لدى الأمم؛ وقد أدّى نمو التجارة والدين والأخلاق إلى إلغاء العبودية في أوربا.

ب. ما هي نتائج الفرق بين الحريتين؟

أ‌.        أهمية المواطن السياسية كانت قوية في امبراطورية كروما، وضعيفة في بلد مثل إنجلترا أو أمريكا.

ب‌.  بإلغاء الرق، أصبحت الديمقراطية المباشرة مستحيلة.؛ لولا عشرون ألف من العبيد، ما كان بإمكان المواطنين الآتينيين النقاش يوميا في الأكورا،

ت‌.  التجارة تشغل الوقت ولا تترك مجالا لشيء آخر،

ث‌.  التجارة تولّد لدى الفرد حبّا كبيرا للاستقلالية؛ آتينا كانت أكثر حرية من المدن الأخرى لأنّها كانت تتاجر أكثر منهن.

ويفضل "كونستانت" حرية المحدثين لأنها مرادفة لاستقلالية الفرد، او لما أسمّاه "عزلة الفرد في برج حقوقه"؛ فهو يدافع عن الفردانية في أقصى حدودها.

الحريات السياسية لا تساوي شيئا، إذا لم تكن تصاحبها الحقوق الفردية التي تشكّل ماهيتها.

فالفرد لديه الملكية الكاملة لجميع قواه، ولا يعطي للدولة إلاّ الشيء القليل الذي تحتاج إليه لكي تستمر.

لا الدولة دولة الحدّ الأدنى من السلطة، ومجال الحكومة يجب أن يقلّص إلى أقصى حدّ هو الآخر. وتحديد هذا المجال الضيّق للحكومة لا يتم بالقانون، لأن هناك قوانين مستبدّة ومكرهة وضارة.

يرى "كونستانت" بأنّ الفكرة الوهمية التي دافع عنها "روسو"، والتي تريد بأنّ مشاركة الفرد في وضع القوانين يشكّل ضمانة ضد الأخطار، فكرة خاطئة. يجب أن يبقى للشخص مجالا خاصا به، وحين يتدخل المجتمع في هذا المجال، يكون في ذلك مساس بالدستور نية.

يجب أن تكون المؤسسات قارة، وأن يكون هدفها الوحيد هو ضمان الحرية.

إن الخطأ الذي وقعوا فيه رجال الثورة الفرنسية هو فهمهم لهتين الحريّتين:

لقد تأثروا ببعض الفلاسفة، وعلى رأسهم "روسو" الذي لم يفهم الفرق بين الحريّتين، وبالتالي، وقع في خطأ نقل نموذج السيادة الجماعية الذي كان يعرفه القدامى دون مساءلته؛ فعلى العكس ما كان يراه روسو أو غيره من الفلاسفة، الحرّية أصبحت هي الحاجة التي يحسّ بها المحدثون Le besoin de liberté

الفقرة الثانية: ما هو النظام الأمثل، الكفيل بضمان الحرية؟

1.    الاستبداد أصبح مستحيلا في عالم تسود فيه التجارة وفكر الأنوار.

2.    الأرستقراطية هي نظام الامتيازات والقهر لصالح فئة من المجتمع على حساب الفئات الأخرى، وعلى حساب الفرد.

3.    أما الديمقراطية، فهي مجرد تمييع للاستبداد.

4.    هناك نظام واحد يراه "كونستانت "بأنّه الأفضل، وهو الذي لا يكون فيه أحد هو مستحوذ على السيادة، ويكون فيه كل شيء منظم بالدستور.

وبذلك يصبح مفهوم الدستور مرادفا للنظام الذي يراعي الحرية الفردية، وأو تكون الحرية هي هدفه الأسمى، كما نص على ذلك إعلان حقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789:" ليس هناك حرية بدون دستور". فالدستور هو الآلية التي تضمن بواسطتها الحرية.

والنظام الذي يضمن أكثر الحرية بهذا التزاوج بين الحرية والدستور هو الملكية الدستورية. والضامن لفصل السلطات هو الملك لأنّه خارج الصراعات الحزبية والفئوية.

ولكن "كونستانت" يقبل بالجمهورية، إذا كانت دستورية.

والفرق بين الملكية الدستورية والجمهورية الدستورية قد يكمن في الشكل، أمّا الفرق بين المكية المطلقة والملكية الدستورية فيكمن في العمق، في المضمون. ويرفض الجمهورية الديمقراطية كالتي تكلم عنها "روسو"، كما يرفض الديمقراطية المباشرة.

الملكية الدستورية:

يرى "كونستينت" أن هناك نوعين من الاستبداد، الأول ملكي، والثاني ديمقراطي، ويرفض كليهما.

,من أجل تفادي الإثنين، الأفضل تبنّي "دستورا نية ديمقراطية constitutionnalisme démocratique.

المبدأ الذي دافع عنه هو الحرّية في كل شيء، في الين والفلسفة والآداب والصناعة والسياسة، ويعني بالحرية "انتصار الفرد سواء على السلطة، أو على الحشود التي تريد إخضاع الأقليّة للأغلبية. وسنجد نفس الفكرة عند "أليكسي دو طوكفيل"، أو عند "ستيوارت ميل".

بماذا أفادنا كونستانت؟ بأنّ الحريات الفردية شيء ثمين، والدفاع عنها يلزم المواطنين بممارسة حريتهم السياسية، وتجاوز مصالحهم الخاصة؛ لأنهم هم الذين يمتلكون سلطة الحكم التي يضعونها وديعة بين أيدي ممثليهم؛ إنّ هذه الفكرة هي الحجر الأساسي للنظام التمثيلي، الذي لا يمكن اختزاله في مجرّد إجراء انتخابي.

المطلب الثاني: أليكسي دو طوكفيل 1805-1859

إذا كان "كونستانت" قد ركز على الحرية والدستورانية كأساس لتعريف الديمقراطية الحديثة، فإن "طوكفيل" جعل من المساواة المعيار الأساس لتعريف المجتمع الديمقراطي؛ فالديمقراطية مزيج من الحرية والمساواة. أول ظاهرة أثارت انتباه "طوكفيل" عند وصوله إلى أمريكا كانت هي المساواة، ورأى فيها الحدث المؤسس الذي تتفرع عنه جميع الأحداث الأخرى: "كلما تعمّقت في دراسة المجتمع الأمريكي، كلما ظهر لي جليا أنّ المساواة هي الحدث الذي تنبثق عنه كل الأشياء الأخرى، وظهر لي كذلك أنّ شيئا مماثلا يحدث في عالمنا (وقصد هنا أوربا، وبالخصوص فرنسا ما بعد ثورة 1789)، ثورة كبيرة ديمقراطية".

« Parmi les objets nouveaux qui, pendant mon séjour aux États-Unis, ont attiré mon attention, aucun n'a plus vivement frappé mes regards que l'égalité des conditions. Je découvris sans peine l'influence prodigieuse qu'exerce ce premier fait sur la marche de la société; il donne à l'esprit public une certaine direction, un certain tour aux lois; aux gouvernants des maximes nouvelles, et des habitudes particulières aux gouvernés. Bientôt je reconnus que ce même fait étend son influence fort au-delà des mœurs politiques et des lois, et qu'il n'obtient pas moins d'empire sur la société civile que sur le gouvernement: il crée des opinions, fait naître des sentiments, suggère des usages et modifie tout ce qu'il ne produit pas. Ainsi donc, à mesure que j'étudiais la société américaine, je voyais de plus en plus, dans l'égalité des conditions, le fait générateur dont chaque fait particulier semblait descendre, et je le retrouvais sans cesse devant moi comme un point central où toutes mes observations venaient aboutir. Alors je reportai ma pensée vers notre hémisphère, et il me sembla que j'y distinguais quelque chose d'analogue au spectacle que m'offrait le nouveau monde. Je vis l'égalité des conditions qui, sans y avoir atteint comme aux États-Unis ses limites extrêmes, s'en rapprochait chaque jour davantage; et cette même démocratie, qui régnait sur les sociétés américaines, me parut en Europe s'avancer rapidement vers le pouvoir ».

ولكن "طوكفيل" الذي كان ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية كان يكره الديمقراطية، لكنه كذلك، كان عالم اجتماع، ويعتبر أحد مؤسسي الدراسة المقارنة للأنظمة السياسية في العصر الحديث، بعد ماكيافيلي ومونتيسكيو؛ ولقد درس كعالم اجتماع المجتمع الأمريكي وشعر بحدسه وقوة ملاحظته للأحداث بأنّه ما يجري في المجتمع الأمريكي سيتحقق، لا محالة، خارج أمريكا، في المجتمعات الأوربية؛ لاحظ بأنّ هناك تيار يجرف بالمجتمعات الغربية ويدفع بها نحو المساواة، مساواة في الأوضاع الاجتماعية عبر انهيار أسس "النظام القديم"، نظام ما قبل الثورة، عبر إلغاء الامتيازات الطبقية التي كانت تطبع النظام الفيودالي، وهذا كان يخلق بعض الارتباك والتناقض في ذهن طوكفيل:

"إنني أعشق المؤسسات الديمقراطية لكنني ارستقراطي بالغريزة؛ إنني أمقت وأكره الحشود؛ أحب الحرية والمساواة، وليس الديمقراطية".

لقد كان طوكفيل مقتنعا بأن المجتمعات الأوربية ستتحول حتما إلى مجتمعات ديمقراطية، أنّ الشعوب تعيش مدّا تاريخيا يدفع نحو محو الفوارق في الوضاع الموروثة، وأنّ البلدان الأوربية، وعلى رأسها فرنسا، ستصبح ديمقراطية، سواء كانت أنظمتها السياسية ملكية أو جمهورية. وهذ الإحساس لم يكن نابعا لديه من حب للديمقراطية (اقد رأينا أنه كان يكرهها )، بل من قناعة اكتسبها الملاحظ من تحليله العميق للتحولات التي عرفها المجتمع الفرنسي منذ الثورة.

لم يكن يطبعه ميّالا للديمقراطية، ولا متحمّسا لانهيار الأرستقراطية، ولكنه تكيّف مع الأوضاع الجديدة، يقينا منه أن الماضي لن يعود، وأن المستقبل للمساواة في الحقوق والواجبات، والحرية السياسية والاقتصادية.

الفقرة الأولى: ما هي الديمقراطية؟

الديمقراطية نمط من الحكم مبني على مشاركة الشعب، بقدر ما: "الديمقراطية مساواة في الحقوق، مساواة أمام القانون، (...) استقلالية كبيرة للفرد، كل حرية، كل مسؤولية (...) الديمقراطية هي الحرية ممزوجة بالمساواة".

ولكن الحرية أهمّ من المساواة في نظر "طوكفيل"؛ فالحرية حق طبيعي، أمّا المساواة، فهي صعبة التحقق، لكن آثارها حقيقية على صعيد النظام السياسي.

ومن بين مميزات الحداثة والنظام الجديد، نجد الفردانية؛ وهي تتولّد عن المساواة؛ والنظام القديم لم يكن يعرف المساواة، لأنّ كل واحد كان مرتبطا بالآخر في سلسلة من علاقات التبعية، من القاعدي إلى القمة؛ ومن خلال هذا نجد مرة أخرى عالم الاجتماع الذي سبق "دوركايم" وغيره إلى استخراج مميّزات المجتمعات القديمة نم المجتمعات الحديثة.

أغلب النظريات، إن لم نقل كلها، تؤكد على الحرية كمعيار أساسي للديمقراطية، و "طوكفيل" يؤكد على مركزية المساواة.

جورج بوردو Georges burdeau كان يرى مثلا بأنّ الديمقراطية غير منفصلة عن الحرية؛ وتعريف الديمقراطية الأكثر استعمالا هو انّها حكم الشعب، وهذا التعريف ر يكتمل معناه إلاّ بإقصاء فكرة أنّ السلطة يمكن أن تنبثق عن جسم آخر. فالديمقراطية هي قبل كل شيء نمط من الحكم يقحم أو يدخل الحرية في قلب العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم؛ فالطاعة مبنية على فبةل السلطة من طرف من تمارس عليهم، وهذا ما ينعت بالشرعية؛ وهذه الشرعية هي بالذات التي تعطي للنظام الديمقراطي قوّته وتجعله يطالب الأفضلية عن سائر الأنظمة الأخرى.

الفقرة الثانية:  تمثّلات الحرية:

هناك من يرى في الحرية قيمة موازية ومرادفة للاستقلالية، وهي تعني غياب الإكراه المادي والمعنوي، وتنطلق من فكرة مسؤولية الفرد عمّا يقوم به؛ وهذه هي الحرية التي تسمح للإنسان بأن يكون سيد نفسه، والتي بحث عن الطرق والأليات الكفيلة يضمانها، ومن تلك الأليات الحدّ من السلطة.

وهناك منظور آخر، ليس منفصلا عن الأول، يربط الحرية بالمشاركة، ويرى أنّ إشراك المحكومين في ممارسة السلطة يحول دون اتّخاذ قرارات عشوائية يمكن أن تمسّ حرية الأفراد، ويضمن للفرد-المواطن مشاركته من خلال مزاولته لحقوقه السياسية التي تتجلّى في حق التصويت والتعبير عن اختياراته السياسية؛ ومن هنا يقال بأنّ الديمقراطية هي نظام الحرية السياسية لأنّ السلطة ترتكز على إرادة الخاضعين لها.

وكلا المنظورين ينبثقان من الفكرة التي يجعل من الشعب مصدر السلطة ومكمن السيادة؛ وهذه الفكرة تتخلل كل نظريات الديمقراطية منذ العصر اليوناني.

1. أطروحة "طوكفيل" حول الحرية:

عكس ما كان يرى "مونتيسكيو" الذي كان يريد الحفاظ على تمايز الطبقات، ويرى أن الحفاظ عليها يكون بفصل السلط، يرى "طوكفيل" بأنّ الحرية لا تبنى على اللاّمساواة، بل على التّساوي في الأوضاع الاجتماعية، بمعني الإنكار المبدئي لتفاوت الطبقات، وإلغاء الامتيازات المبنية عن الولادة، والأصل، وما إلى ذلك. لا يعني تساوي الأوضاع الاجتماعية égalité des conditions المساواة في الثروة، أو في الأوضع الاقتصادية، بل أنّ الناس متساوين في قيمتهم السياسية كمواطنين؛ يجب أن تكون هذه المساواة السياسية مضمونة بمؤسسات، وجد "طوكفيل" نموذجا لها في أمريكا (الفدرالية، واللامركزية، والجماعات المحلية، والجمعيات).

لا يوجد لدى "طوكفيل" تعريف مباشر للحرية، ولكن يمكن أن يستشفّ كالتالي، من خلال كتاباته:

-الحرية هي غياب العشوائية، حين تمارس السلطة فقط طبقا لقوانين تحفظ سلامة الأفراد.

-لا يجب إعطاء السلطة المطلقة لأحد، لأنّ كل إنسان قابل للخضوع لميولاته، وعرضة للارتشاء.

-يجب أن توجد عدة أماكن للسلطة؛ لا يجب أن تكون ممركزة في موقع واحدن في شخص واحد أو مؤسسة واحدة.

-يجب أن يكون الذين يمارسون السلطة نوابا للذين تمارس عليهم، بمعنى أنّه يحبذ أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، كلما كان ذلك ممكنا.

كيف يمكن أن يتجنّب مجتمع تتساوى فيه الأوضاع الاستبداد؟

المجتمع الأمريكي يمكن أن يعطي للمجتمعات الأوربية نموذجا عن الطريقة التي يمكن بها الحفاظ على الحرية في المجتمع الديمقراطي.

2.    من سلبيات المساواة

في العهد القديم، كان كل واح محميا من طرف آخر أعلى منه درجة، بيد أن في عصر الديمقراطية والمساواة، لا يمكن أن يعتمد الفرد على الآخرين، فالديمقراطية تجعل الفرد في عزلة تامة: "في عصر المساواة، لا يثق الناس في بعضهم لأتهم متشابهون، ولكن هذا التشابه يعطيهم ثقة في الرأي العام، إذ يظهر من غير المعقول ألاّ تكون الحقيقة لدى أغلبية الناس".

في عصر المساواة تختفي المؤسسات الوسيطة، وباختفائها تطورت المركزية، لآنها أصبحت ضرورية.

يرى طوكفيل أنّ الحرية في العهد الديمقراطي لم تكن هي المطلب الأساسي، لأنّ نتائجها لا تظهر مباشرة، بيد أنّ نتائج المساواة تظهر جليا.

إنّ المساواة شغف لامتناهي، يدفع الناس إلى العمل على أن يصبحوا متساوين، يدفع الضعفاء إلى إنزال الأقوياء إلى مستواهم لكي يصبحوا متساوين في العزلة والانحطاط.

الفقرة الثالثة: استبداد الأغلبية

المساواة تهدد الحرية: تكوّن لدى طوكفيل إحساس بأنّ سيادة الأغلبية تعتبر نوعا من الطغيان، نوعا من طغيان الحشود، الذي يشكّل أكبر خطر يهدد الديمقراطية.

كيف يمكن الحد من استبداد الأغلبية؟

الحلّ يكمن، حسب طوكفيل، في تقوية "الحريات المحلية"   les libertés communales( بمعنى الديمقراطية المحلية)، وجمعيات المجتمع المدني؛ فطوكفيا يفضل اللامركزية ويفضل ما يسميه "الحرية البلدية"؛ فهذه الحرية نادرة وضعيفة، ويجب الحفاظ عليها لأنها هي الضمان لوجود المواطن: "أزيلوا للجماعة قوّتها واستقلاليتها، ولن تجدوا إلاّ محكومين". ويجب أن تدخل هذه الحرية في العادات والأعراف لكي تصبح قوية، لأنها مهددة دائما بالانهيار أمام تدخلات المركز.

« Les démocraties sont naturellement portées à concentrer toute la force sociale dans les mains du corps législatif. Celui-ci étant le pouvoir qui émane le plus directement du peuple, est aussi celui qui participe le plus de sa toute-puissance. On remarque donc en lui une tendance habituelle qui le porte à réunir toute espèce d'autorité dans son sein. Cette concentration des pouvoirs, en même temps qu'elle nuit singulièrement à la bonne conduite des affaires, fonde le despotisme de la majorité ».

الفقرة الرابعة: خطر المركزية تدخل الدولة:

هناك آليتان تسمحان وتمكّنان من تطور الطغيان: التمركز الإداري والسياسي، وتدخّل الدولة في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والدينية (...)؛ إن الدولة التي تتدخل في كل مناحي الحياة في كل جوانبها وتخضع الفرد والجماعات لمراقبتها سميّت في القرن العشرين بالدولة الشمولية؛ ويمكن أن نقول أن طوكفيل كتب السطور الأولى من نظرية الأنظمة الشمولية التي لم توجد إلاّ في القرن العشرين؛ وهذا يبيّن أنه كان لديه قوة استشرافية كبيرة.

بقدر ما كان متخوفا من مبدا الأغلبية، بقدر ما كانت لديه ثقة في الديمقراطية المحلية التي يمكن أن نسمّيها "ديمقراطية القرب"، وما كان يسمّيه ب"الحريات البلدية" les libertés communales؛ وقد اخترنا هذه الترجمة لأنّ المصطلح الفرنسي يمكن أن يترجم ب"الجماعي"، وهذا لا يؤدّي المعنى الذي أراده طوفيل لآنّه كان يقصد الجماعات المحلية في صيغتها الحديثة التي لاحظها في أمريكا.

يجب أن تترسخ "الحريات البلدية" كذلك بالقانون.

جمعيات المجتمع المدني:

إنها تشكّل الطريقة والوسيلة الأفضل لأخذ المبادرة من طرف المواطنين، دون اللجوء إلى الدولة؛ وهذا يضعف المركز، بحيث يقلّل من الحاجة إليه. فحق تكوين الجمعيات، والعمل بها أساس كل ديمقراطية حرة.

الحرية والدين:

يركز طوكفيل على أهمية الدين في المجتمع الأمريكي، ورأى انسجاما كبيرا بين الدين والحرية، ولاحظ كيف أن المسيحية أضيفت عليها صبغة جمهورية وديمقراطية في ولاية انجلترا الجديدة.

يرى طوكفيل أنّ الدين يضمن استمرار التقاليد، وبدون الأعراف لا وجود للحرية، في نظره؛ فالدين ضروري في المجتمع الأمريكي، ولكنه لا يصلح، في نظره، إلاّ إذا كان مفصولا عن الدولة، ولا يتدخل مباشرة في شؤون الحكم؛ قد يمتلك الدين الأرواح، وليس المواطنين؛ وفي أمريكا، حتى الكاثوليك سلّموا بهذه الفكرة.

المبحث الرابع: نظريات الدولة 

المطلب الأول: هيجل Hegel 1770-1831

لن نهتم هنا إلاّ بنظرية هيجل حول الدولة.

إجابة على سؤال "ما هي الدولة؟"، يقول عبد الله العروي أن هيجل لخص أقوال أفلاطون وماكيافيلي، وفنّد أقوال "أوغستين "، وروسو، وكانط، وأنّه نقطة وصل بين الفلسفة الكلاسيكية والفلسفة الحديثة، ويقول أنّ لا غنى عنه في تحليل مفهوم الدولة".

1.    الدولة والفرد

إنّ النقطة الأساسية في نظرية هيجل حول الدولة تكمن في سؤال العلاقة بين الفرد والدولة؛ أهي علاقة تماهي، ام علاقة تعارض؟

في كلامه على أفلاطون، يقول هيجل أنّ هذا الأخير "يقدم في كتابه الجمهورية الأخلاق في جمالها السامي وحقيقتها المثلى، لكنه يخفق، حيث لا يتبنّى مبدأ خصوصية الذات المستقلة"

نجد في مقاربة هيجل للدولة ازدواجية تعبّر عن التناقض المبدئي بين الفرد والدولة، بين الكلّ ومكوّناته، ولكن هذا التناقض متجاوز لأن الازدواجية تعبّر عن ازدواجية الفرد المعنزل في حياته الخاصة، والمواطن الذي يحس بأن الجانب الأزلي من وجوده يكمن في الدولة التي تتجانس فيها إرادته الخاصة بالإرادة العامة.

بعبارة أخرى، إنها ازدواجية الإنسان في خصوصيته، في حياته، والمواطن الذي تتماهى إرادته مع الإرادة العامة. ويرى هيجل أن هذا التماهي كانت تعرفه المدينة-الدولة  Cité-Etat. ويرى بأنّ الإنسان أصبح، منذ آخر فترات الإمبراطورية الرومانية، منفصلا عن الدولة، وأصبح منطويا على نفسه، ولا يرعى إلاّ مصالحه الخاصة، مما يفسّر جانبا من أسباب انهيار الإمبراطورية؛ وهذه الفكرة بالذات هي التي رأيناها عند مونتسكيو.

حين أصبحت الجولة مجرّد قوة أجنبية عن المواطن، حصل نوع من الاستلاب الديني؛ حيث أنّ فقدان الثقة في الحياة العامة، في الدولة، أدّى بالفرد إلى اللجوء إلى الغيبيات. والاستلاب الديني والسياسي يحصلان في آن واحد؛ وقد سعت الثورة الفرنسية إلى إنهاء هذين النوعين من الاستلاب بمحاولة التوفيق بين الأنسان والمواطن؛ ولقد حاولت أن تمحي التناقض بين مصلحة الفرد الخاصة والمصلحة العامة، ممثلة في الدولة؛ لكن الثورة فشلت في هذا المسعى. هذه الازدواجية تعبّر عن التناقض الجدلي بين الكل ومكوناته؛ وهي تعبّر عن مأزق: استحالة نكران الفرد لخصوصيته ولمصالحه، وضرورة الاعتراف بالدولة ككلّ متضمن للأفراد في ولاءهم والإرادة العامة.

إنّ الفرق بين التاريخ القديم والتاريخ الحديث يكمن في الاعتراف خصوصية الذات، وبحقها في الحرية؛ "يمكن أن نعتبر أنّ الدولة تزداد كمالا، كلّما كان ما يترك لمبادرة الفرد(...) أقلّ أهميّة مما ينجز جماعيا".

"إن مبدأ الدولة الحديثة يتضمّن قوة عميقة تجعله قادرا على ترك الذات تحقّق إلى أقصى حدّ مدى خصوصية نفسها المستقلّة، وفي نفس المقت، على ردّها إلى الوحدة الجوهرية لضمان وحدة الدولة".(العروي 22  فيلو 194).

ويعبّر عبد الله العروي عن هذا بقوله: "إنّ الدولة ناقصة في ذاتها لأنها تناقض باستمرار الفرد والوجدان والأخلاق، بل، يقول هيجل، أنّ الدولة التي يحمل في طياتها ذلك التناقض ناقصة ولا تستحق أن تسمّى دولة بالمعنى الدقيق. الكيان السياسي الذي يستحق أن يسمى دولة هو الذي يتحمّل التناقض ويتجاوزه، بل يجعل منه وسيلو للحفاظ على الوحدة (...) لا تستحق مجموعة إنسانية أن تنعت بالدولة إلاّ إذا كانت متّحدة من أجل الفاع تاجماعي عن ممتلكاتها" (العروي 25، 29).

فالدولة في الفلسفة الهيجلية عبارة عن جسم، والعلاقة بينها وبين الفراد هي علاقة جسم بأعضائه.

 ولتلخيص فكرة الدولة كجسم، وعلاقة الجسم بأعضائه، يقول  Frantz Grégoire يمكن التكلم عن ثلاثة أنماط من الدولة:

1.    الدولة القديمة التي لا تعترف بحقوق الإنسان، والتي لا تدع مجالا لاستقلالية الفرد.

2.    الدولة الليبرالية التي تعترف بحقوق الإنسان وتترك مجالا لاستقلالية الفرد، و لا تكون فبها الدولة غاية في حد ذاتها.

3.    الدولة الهيجلية التي تعترف بحقوق الإنسان، ولكن يكون الفرد فيها منسجما معها، ويجعل منها غايته الأسمى، بكل عقلانية وحرية".

يرى هيجل، حسب لعروي، أنّ نظريته ليست خاصة به، بل أنها النظرية الوحيدة الممكنة عقلا (...) وبأنّ كلّ من يفكّر بطريقة عقلانية بالدولة يصل إليها، لأنها يمليها العقل. فالدولة هي "الفكرة" المثال L’Idée.

وكان يظن أن "الفكرة"، أي الدولة المثلية تحققت في الملكية البروسية (التي كانت ملكية دستورية ).

المطلب الثاني: ماكس فيبر 1864-1920

كان يريد ماكس فيبر إعادة بناء تاريخ المجتمعات انطلاقا من التحولات التي تطرأ فيها على أنماط الحكم، بالتركيز على أنماط الهيمنة.

وهو يركّز على العلاقة القئمة بين العقلانية الغربية والدولة الحديثة؛ ويبيّن كيف أنّ هذه الدولة كانت بمثابة نهاية الطابع البتريمونيالي، بحيث أنّ الدولة (بمعنى تمايزت فيها الوظائف وأنشأت مؤسسات متباينة لتقوم كا واحدة منها تقوم بوظيفة معينة)، واستقلت بذاتها عن ذات الحاكم، وفي ذلك قطيعة مع النمط الفيودالي.

وقد حدد الدولة البتريمونيالية في كونها "فضاء ينظّم فيه الحاكم سلطته كما لو كان يحكم فضاء أسرته"؛ فهذا النمط يسيطر عليه خليط من التقليد tradition والعشوائية.

الفقرة الأولى: أنماط الهيمنة

قدّم ماكس فيبر ما سمّاه بالنماذج المثالية للسلطة، او للهيمنة domination   وهي ثلاثة:

-السلطة التقليدية،

-السلطة الكاريزمية،

السلطة العقلانية-القانونية.

وعرّف فيبر السلطة بأنّها الإمكانية التي تكون متوفرة لفرد بأن يفرض إرادته في علاقة اجتماعية على أشخاص يكون لديهم استعداد لقبولها؛ وهذا التعريف يتضمن في طياته السلطة، من جهة، وقبولها من طرف الذين تمارس عليهم، من جهة أخرى، ويحيل هذا الجانب على مفهوم الشرعية légitimité؛ فالهيمنة عند فيبر تلتقي بمفهوم الشرعية.

يميّز فيبر بين الهيمنة والقوة؛ تقول حنّا آرنت Hannah Arendt:

"بما أنّ السلطة تتطلّب دائما الطاعة obéissance   نرى فيها في أغلب الأحيان نوعا من القوة والعنف. إنّ الهيمنة تستبعد وسائل الإكراه؛ فحين يستعمل العنف، هذا يعني أن الهيمنة فشلت".

« puisque l’autorité requiert toujours l’obéissance, on la prend souvent pour une forme de pouvoir ou de violence. Pourtant, l’autorité exclut l’usage de moyens extérieurs de coercition ; là où la force est employée, l’autorité proprement dite a échoué. L’autorité, d’autre part, est incompatible avec la persuasion qui présuppose l’égalité et opère un processus d’argumentation 

و سنرى أن فيبر يعرّف العنف المشروع الدي تحتكره الدولة بأنّن إمكانية اللجوء إلى العنف من طرفها (طبقا للقوانين)، ولكنها لا يضطر إلى اللجوء أليه لأنّ سلطتها مقبولة من طرف من يتمارس عليهم، بمعنى أنهم ينظرون إليها لأنّها مشروعة.

1.    الهيمنة التقليدية: فهي تنبني على الطابع القدسي للقدرات التي تتوفر عليها السلطة، والتي تتوارث بالزمن؛ وهذا النمط يتمظهر بوجود نمط من القوة الأبوية (بتريمونيالية) patrimonial ذات الطبيعة الإقطاعية (فيودالية). فالحاكم في هذا النمط يتم اختياره أو يأخذ السلطة طبقا لقواعد موروثة؛ فطاعته تكون بحكم الشرف الذي يخوّل له بفعل التقاليد (...) وإدارته لا تتكون من موظفين، بل من خدام لشخصه، والمحكومين ليسوا أعضاء من تجمّع سياسي مستقل بذاته، بل في أغلب الأحيان رعايا. وليست الواجب الموضوعي للوظيفة ما هو الذي يحدد العلاقة بين الحاكم والطاقم الإداري، بل الولاء.

والطاعة ليست لقواعد قانونية، بل لشخص، بحكم التقاليد. وسلطة هذا الشخص تعتبر مشروعة لأنّها تجد شرعيتها في التقاليد.

ولا يقول فيبر بتاتا أنّ أنماط الهيمنة هذه تتتابع في الزمن، بل يمكن أن تتداخل فيما بينها، إذ يمكن أن تكون سلطة مبنية على التقاليد، وعلى الكاريزما كذلك؛ كما يمكن أن يوجد هذا الكاريزما لدى قادة في دول حديثة، مبنية على الشرعية القانونية العقلانية.

2.الهيمنة الكاريزمية:

 ينبني هذا النمط على المميّزات الشخصية الخاصة، الخارقة للعادة لدى القائد، وهي تتعارض مع النمطين الآخرين، إلاّ أنها قد تتواجد داخل النمط العقلاني.

3.الهيمنة العقلانية القانونية:

هذا النمط يبتدئ يشكّل قطيعة مع النمط البيتريمونيالي، وهو يميّز صيرورة بناء الدولة الحديثة؛ وهذا النمط يتماهى مع التطور المطّرد "للإدارة البيروقراطية"، والبيروقراطية لا يجب ان تفهم هنا بالمعنى القدحي، بل كطاقم إداري وكتنظيم مكون من موظفين في خدمة الدولة والمصلحة العامة، ولا يدينون بالولاء إلاّ مؤسسة الدولة التي هي مستقلة بذاتها عن شخص الحاكم، والتي تحكمها العقلانية القانونية.

ومن هنا نجد تعريف ماكس فيبر للدولة الحديثة.

الفقرة الثانية: الدولة الحديثة عند ماكس فيبر

"أنها التجمّع ذو الطابع المؤسساتي الذي طال بنجاح، داخل مجال ترابي محدد، باحتكار العنف المشروع كوسيلة وكأداة للهيمنة، والذي (التّجمّع)جمّع لهذا الهدف بين يديه الوسائل المادية للإدارة، مما يعني أنّه انتزعها من الذين كانوا يتوفرون عليها من قبل، بفعل الامتيازات الطبيعية أو التقليدية"

« l'État moderne, écrit-il, est un groupement de domination de caractère institutionnel qui a cherché (avec succès) à monopoliser, dans les limites d'un territoire, la violence physique légitime comme moyen de domination et qui, dans ce but, a réuni dans les mains des dirigeants les moyens matériels de gestion. Ce qui veut dire qu'il en a exproprié tous les fonctionnaires qui, suivant le principe des « états », en disposaient autrefois de leur propre droit et qu'il s'est substitué à eux, même au sommet de la hiérarchie

(الأرستقراطية - الفيودالية في القرون الوسطى مثلا).

فالدولة تكونت بفعل صيرورة انتهت باحتكار السلطة من طرفها، وفي هذا قطيعة مع النظام الفيودالي؛ إنّ خاصية الدولة الحديثة هي أنّها لا تسمح لا للأفراد، ولا للتّجمّعات باستعمال العنف، لأنّها الوحيدة التي أصبح لديها هذا الحق.

فالدولة الحديثة بنيت، حسب "نوربير إلياس" بفضل احتكارها لمجالين أساسيين، وهما احتكار القوة، أو استعمال العنف (المشروع)، واحتكار فرض الضرائب: حين تمكنت الملكيات من احتكار سلطة استعمال القوة، بانتزاعها من أيدي الفيودالية، وتمكنت من احتكار جمع الجبايات لصالح المركز، تكوّنت الشروط التاريخية والموضوعية لظهور الدولة على شكلها الحديث.

إنّ الدولة الحديثة نشأت كنتيجة لصيرورة من التّمايزات différenciation تكمنت بفعلها من المأسسة: تمايز بين المجال الخاص للملك والمجال الخاص للدولة، تمايز بين مالية الملك أو الأمير ومالية الدولة، تمايز بين المجال السياسي والمجال الديني، التمايز بين الوظائف السياسية (التشريعية والتنفيذية)، تمايز سلطة القضاء.

و"الدولة تظهر كمؤسسة سياسية-إدارية في خدمتها موظفين متماهين مع وظيفتهم

(لا يمتلكونها)، وكمؤسسة مستقلة عن المجتمع المدني الذي تحاول أن تفرض عليه وصايتها"



ملتقيات طلابية لجميع المستويات : قانون و إقتصـاد

شارك هدا

Related Posts

التعليقات
0 التعليقات