تقرير النموذج التنموي الجديد 2023 - عبد الحكيم بن شماش
مساهمة رئيس مجلس المستشارين، السيد "عبد الحكيم بن شماش" في تقديم المؤلف الجماعي، الصادر عن مركز تفاعل للدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية حول موضوع "النموذج التنموي الجديد : أي مدخلات لأي مخرجات ؟". والذي عرف مشاركة مجموعة من الأساتذة والباحثين. وتأتي هذه المساهمة في إطار انفتاح المجلس على محيطه الخارجي وكذا مواكبته لنقاش معالم النموذج التنموي الجديد لبلادنا. يشار أن ورش النموذج التنموي الجديد قد أطلقه صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله منذ سنة 2017، والذي توج بإصدار تقرير مفصل حول النموذج التنموي من طرف اللجنة الخاصة، تحت عنوان: " النموذج التنموي الجديد ، تحرير الطاقات وبناء الثقة لتسريع المسيرة نحو التقدم والازدهار من أجل الجميع".تقديم ملخص النموذج التنموي الجديد
يندرج هذا المؤلف الجماعي بعنوان " النموذج التنموي الجديد: أي مدخلات لأي مخرجات؟ ضمن العدد الرابع لسلسلة الدراسات السياسية والدستورية التي يصدرها مركز تفاعل للدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، في إطار تفاعل الوسط الأكاديمي مع الدعوة السامية لجلالة الملك محمد السادس نصره الله، لا سیما ضمن الرسالة الملكية السامية التي وجهها جلالته إلى المشاركين في أشغال المنتدى البرلماني الدولي الثالث للعدالة الاجتماعية الذي نظمه مجلس المستشارين يومي 19-20 فبراير 2018 في موضوع رهانات العدالة الاجتماعية والمجالية ومقومات النموذج التنموي الجديدوتتمثل إحدى أقوى ما انطوت عليه الدعوة الملكية في التشديد على الحاجة المجتمعية إلى التفكير الجماعي، بكل حرية وموضوعية، وفي إطار الالتزام بالدستور واحترام ثوابت الأمة التي ينص عليها، في مقومات نموذج تنموي جديد كفيل بأن يحدد إطار وبوصلة المجهود الوطني لتقدم البلد إلى الأمام على درب الديمقراطية والتنمية والحداثة في سياق جهوي ودولي حافل بالتحديات والفرص.
ويصدر هذا المؤلف في سياق اختبار مدى جاهزية الدولة والاقتصاد الوطني لتحمل الأزمات الفجائية في ظل تفشي جائحة كورونا، لا سيما وأن الجائحة نت، بالموازاة مع حالة الطوارئ الصحية، إلى حالة طوارئ اجتماعية حين كشفت عن هول التفاوتات المجالية بين مناطق المغرب، لتجدد الوعي بأهمية خلق شروط العيش الكريم للمواطنين، مما جعل منها فرصة حقيقية للوقوف بشكل جدي على مكامن الخلل في مختلف السياسات العمومية الوطنية، وإعادة تحديد الأولويات التي يفترض أن تكون في مقدمة النموذج التنموي الجديد.
اطلع ايضا على : كتاب نموذجنا التنموي من أجل تعاقد جديد PDF
ويأتي هذا المؤلف الجماعي الذي يتضمن عشرون إسهاما علميا لثلة من الباحثين والأساتذة الجامعيين، تتداول بالدرس والتحليل أوجه قصور النموذج التنموي المعمول به حاليا وتستشرف مقومات ومعالم نموذج تنموي بديل يستجيب لمتطلبات الاستدامة والإدماج بمثابة عقد اجتماعي جديد، لإغناء رصيد الإصدارات التي أنجزت من طرف المؤسسات ومختلف القوى الحية في الموضوع، وعلى رأسها تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والذي أكد فيه على إصلاح منظومة التعليم، وتطوير الخدمات العمومية، وتعزيز التنافسية وتقليص الهوامش الربعية، وإدماج الاقتصاد غير المهيكل، وتعزيز حضور النساء في النسيج الاقتصادي ، وإدماج العالم القروي، وتعزيز التضامن وتقليص الفوارق، وتعزيز دولة القانون الضامنة للصالح العام، وحماية وتثمين الرأسمال الطبيعي، والتقرير الاستراتيجي للمعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية 2020/2019 ، والذي سلط فيه الضوء على دعامات رئيسية، تتجلى، بالخصوص، في ضرورة وضع الإنسان في صلب التنمية، وحماية الطبيعة والمساهمة في حماية كوكب الأرض.
وتقديما لهذا المؤلف، ومن منظور منهجي صرف، نتقاسم مع القارئ(ة) مجموعة من الموجهات التركيبية، التي تعتبرها مؤطرة للأفكار والأطروحات الواردة ضمن الإسهامات العلمية القيمة التي تشكل هذا المؤلف الجماعي، بمثابة مرتكزات معيارية وإجرائية للنموذج التنموي قيد البناء، من زاوية الترصيد والبناء على التراكم وأحداث القطائع اللازمة.
أولا، المرتكزات الدستورية للنموذج التنموي الجديد
ترتكز معالم النموذج التنموي البديل على أرضية القيم والمبادئ والأهداف ذات القيمة الدستورية لا سیما: دولة القانون حظر التمييز - التعددية - الحكامة الجيدة - ربط المسؤولية بالمحاسبة - دعائم المجتمع المتضامن - التضامن والعدالة المجالية - المساواة - تكافؤ الفرص - فعلية الحقوق - الكرامة - العدالة الاجتماعية - إدماج الفئات الهشة، وكذا التزامات الدولة المنصوص عليها في الفقرتين 2 و3 من الفصل 35 من الدستور، والتزامات الجميع المنصوص عليها في الفصل 39 من الدستور.
وبالإضافة إلى الضمانات الجوهرية والإجرائية المتعلقة بتحقيق الطابع الفعلي للحقوق والحريات المضمونة دستورية، بما فيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية (الفصل 6 من الدستور)، فإن عددا من أحكام الدستور تتضمن موجبات تأويلية، يتحقق باستحضارها، التأسيس الحقوقي للنموذج التنموي الجديد، على الوجه الأمثل الذي توخاه المشرع الدستوري وتسهر على صيانته الإرادة العليا للدولة ممثلة في جلالة الملك.
ويمكن الإشارة إلى بعض من هذه الموجهات التأويلية، على سبيل المثال لا الحصر، فيما يلي: فبم الانفتاح والاعتدال والتسامح، الطابع الكوني لحقوق الإنسان وعدم قابليتها للتجزيء (التصدير)، الحقوق والمصالح المشروعة للمواطنات والمواطنين المقيمين في الخارج (الفصل 16)، المساواة بين الجنسين (الفصل 19). التنظيم المستقل لبعض المجالات (الفصلين 26 و28)، الإدماج، الوقاية من الهشاشة، إعادة التأهيل، الاندماج (الفصلان 33 و 34)، تعزيز العدالة الاجتماعية (الفصل 35). الرعاية الخاصة للفئات الاجتماعية الأقل حظا الفصل 35)، روح المسؤولية والمواطنة الملتزمة (الفصل 37)، مبادئ التنظيم الجهوي والترابي المنصوص عليها في الفصلين 136 و 140، وكذا مفهوم المكتسبات في مجال الحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في الفصل 175
وعليه، تعتبر أن إحدى المرتكزات المعيارية للنموذج التنموي تتأسس على الربط بين العد التين الاجتماعية والمجالية، بوصفها أساس النموذج التنموي المغربي فيد البناء، انطلاقا من أحكام الفقرة الثالثة من الفصل 35 من الدستور التي تحدد طبيعة الالتزام الإيجابي للدولة بالعمل على تحقيق تنمية بشرية مستدامة من شأنها تعزيز العدالة الاجتماعية"، وهو التزام يأتي إعمالا لاختيار العدالة الاجتماعية كإحدى دعامات المجتمع المتضامن، المحددة عناصره في التصدير الذي يشكل جزءا لا يتجزأ من الدستور.
وفي هذا الصدد، نعتبر أن "إعلان الحق في التنمية يمكن أن يكون معيارا إرشاديا للنموذج التنموي فيد البناء، على النحو الذي أبرزه المقرر الخاص الأممي المعني بالحق في التنمية، في تقريره الصادر بتاريخ 2 غشت 2017.
وضمن هذا المنطق، وجب التأكيد على الترابط بين الحق في التنمية وباقي الحقوق الأخرى، وعلى أهمية ضمان عدد من الشروط الضرورية لأي نموذج تنموي مرتكز على قيم حقوق الإنسان وتتسم بطابع دامج ومؤهل للفئات الهشة، ومنها شروط عدم التمييز، وتحقيق المساواة بين الجنسين، وضمان حماية المكتسبات التي حققها بلادنا في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي مجال الحكامة الجيدة واعمال مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
لذا، فإن أي تصور للنموذج التنموي قيد البناء، يجب أن ينبغي أيضا على الإطار المفاهيمي الأممي للحق في التنمية كما ورد في إعلان الحق في التنمية لسنة 1986 بما في ذلك اعتبار التنمية "عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية شاملة غايتها تحسين رفاهية السكان كافة باستمرار " واستحضار الطابع الأولي للعناصر المكونة لهذا الحق، ومنها الحق في الغذاء والصحة والتعليم والسكن اللائق والعمل على النحو المنصوص عليه في المادة 8 من الإعلان، وكون الحق في التنمية حقا غير قابل للتصرف (المادة 1-1)، وتأكيد الإعلان جميع جوانب هذا الحق متلاحمة ومترابطة (المادة 9-1)، وأن الدول هي المسؤولة الأولى عن إيجاد الظروف الوطنية والدولية المواتية الإعمال الحق في التنمية (المادة 3-1)۔
وتجدر الإشارة بهذا الخصوص إلى قرار مجلس حقوق الإنسان، رقم 28/30
، المعتمد في 2 أكتوبر 2015، المعنون "الحق في التنمية"، والذي تم التأكيد فيه على أن " الدول هي المسؤولة في المقام الأول عن تهيئة الظروف الوطنية والدولية المواتية لإعمال الحق في التنمية". وقد جرى تجديد التأكيد على الالتزام الإيجابي للدولة، في قرار مجلس حقوق الإنسان رقم 9/39، المعتمد في 27 سبتمبر 2018، المعنون" الحق في التنمية.
وضمن نفس المنطق، واستنادا إلى الرؤية الأممية التي تربط بشكل متكامل بين إعلان الحق في التنمية وأهداف التنمية المستدامة، يجب أن تشكل أهداف التنمية المستدامة ومؤشراتها المعتمدة أمميا، جزءا من الإطار المنطقي للجيل الجديد من السياسات العمومية الأفقية، القطاعية والترابية التي سيتم اعتمادها في إطار النموذج التنموي الجديد، وهي السياسات التي يتعين أن تقوم على المستوى الوطني، بأجرأة الالتزام المقدم في خطة التنمية المستدامة لعام 2030 "بعدم استثناء أي شخص" والاعتراف بأن القضاء على الفقر بجميع أشكاله وأبعاده شرط لا غنى عنه لتحقيق التنمية المستدامة.
ويجدر التذكير في هذا الصدد بقرار مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة، رقم 21/35
المعتمد في 22 يونيو 2017، المعنون "إسهام التنمية في التمتع بجميع حقوق الإنسان"، والذي أكد فيه المجلس من جديد أن " خطة عام (30(20 خطة ذات نطاق وأهمية غير مسبوقين حظيت بقبول كل البلدان وتنطبق على الجميع، وأن أهداف التنمية المستدامة وغاياتها متكاملة وغير قابلة للتجزئة، وهي عالمية بطبيعتها وشاملة من حيث تطبيقها وتراعي أختلاف الواقع المعيش في كل بلد وقدراته ومستوى تنميته، وتحترم السياسات والأولويات الوطنية، بينما تظل متسقة مع القواعد والالتزامات الدولية ذات الصلة"
وسعيا إلى تأسيس إطار للسياسات العمومية يربط بين الالتزامات الإيجابية للسلطات العمومية التي ينص عليها الدستور في مجال ضمان الطابع الفعلي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية من جهة، وبين التزامات بلادنا الاتفاقية من جهة ثانية، فإن هندسة النموذج التنموي الجديد قيد البناء، يجب أن تسترشد في تحديد الرؤية والأهداف الاستراتيجية النموذج المذكور، بالمعايير التي حددها الفريق العامل المعني بالحق في التنمية، من أجل تحقيق خاصية "السياسات الإنمائية الشاملة التي تركز على الإنسان، وهي معايير تعزيز التحسين المستمر في مجال الرفاه الاجتماعي والاقتصادي، والحفاظ على نظم اقتصادية ومالية مستقرة على المستوى الوطني، وتعزيز وضمان إمكانية الوصول إلى فوائد العلم والتكنولوجيا، وتعزيز وضمان استدامة البيئة والاستخدام المستدام للموارد الطبيعية، والاستناد إلى مقاربة حقوق الإنسان في وضع وتنفيذ وتتبع وتقييم برامج التنمية، والتصحيح المستمر للتفاوتات الاجتماعية والمجالية، عبر "إصلاحات اقتصادية واجتماعية".
وفي سياق متصل، يتعين أن يضمن النموذج التنموي فيد البناء الآليات الكفيلة باعتبار مقاربة النوع بصورة ممنهجة عرضانية في جميع السياسات العمومية، التي تترتب عن إعمال النموذج المذكور، ويمكن في هذا الصدد الاسترشاد بالتوصيات الصادرة عن اجتماع الخبراء الأمميين " للنظر في الثغرات والتحديات وأفضل الممارسات المتصلة بتمتع جميع النساء والبنات تمتعا كاملا بحقوق الإنسان وتعميم المنظور الجنساني بصورة منهجية في عملية تنفيذ خطة التنمية المستدامة لعام 2030 ". وفي هذا الصدد، يعتبر المسار الحالي لإعداد النموذج التنموي فرصة سانحة لضمان تحول إيجابي متسارع وغير قابل للتراجع، لتصحيح أوجه عدم المساواة بين الجنسين على مستوى الأدوار والمسؤوليات، وامكانية الحصول على الموارد، والمشاركة وصنع القرار، والأعراف الاجتماعية.
وتشكل التوصيات الواردة في الآراء والتقارير الصادرة عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أيضا مراجع ذات أهمية بالغة في هذا الشأن، لا سيما الرأي بشأن التوزيع المجالي للاستثمار العمومي في أفق الجهوية المتقدمة (2015)، بشأن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (2013)، وبشأن الولوج المنصف والمعمم إلى الخدمات الصحية (2013)، وبشأن الميثاق الوطني للبيئة والتنمية المستدامة (2012)، والميثاق الاجتماعي الجديد (2011)، وتشغيل الشباب (2011)، والاقتصاد الأخضر (2012)، والنظام الضريبي المغربي (2012)، وتدبير وتنمية الكفاءات البشرية (2013)، والتكوين مدى الحياة (2013)، وتجانس السياسات القطاعية (2014)، والاقتصاد الاجتماعي والتضامني (2015). وإدماج مقتضيات التغيرات المناخية في السياسات العمومية (2015)، ومتطلبات الجهوية المتقدمة وتحديات إدماج السياسات القطاعية (2016)، والمسؤولية المجتمعية للمنظمات (2016)، و الثروة الإجمالية للمغرب ما بين 1999 و 2013 - تقرير الدراسة حول الرأسمال غير المادي عامل لخلق الثروة الوطنية وتوزيعها المنصف، وتنمية العالم القروي (2017)، وتغيير النموذج المعتمد من أجل بناء صناعة دينامية في خدمة تنمية مطردة ومدمجة ومستدامة (2017)
كما يتعين ترصيد التوصيات الواردة في التقارير ذات الطبيعة الإستراتيجية التي همت التفكير في النموذج التنموي المغربي من منظور مندمج وعاير للقطاعات كتقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية (2013)، وتقرير اللجنة الاستشارية للجهوية (2010)، وتقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي حول الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015-2030 من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء (2016) والتقرير حول الثروة الإجمالية للعقرب ما بين 1999 و2013 (2016)، والدراسة الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط بشأن أقف المغرب 2030 (2011)، وتقرير 50 سنة من التنمية البشرية وآفاق سنة 2025 وخاصة منها ما يتعلق برهانات المستقبل الخمس في إطار السيناريو المأمول في أفق "السير نحو 2025"؛ وكذا نتائج تشخيص تطور النموذج التنموي المغربي التشخيص المتعدد الأبعاد الذي سهر على إنجازه مركز التنمية التابع لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بتنسيق من طرف مصالح رئاسة الحكومة، وبمشاركة العديد من الفاعلين في الحقل الاقتصادي والاجتماعي من القطاعين العام والخاص، والتي تشكل كلها مداخل أساسية لبناء نموذج جديد للتنمية تمكن البلاد من إنتاج الثروة وتجاوز محدودية واختلالات النموذج التنموي القائم.
وفي نفس السياق، تعتبر التوصيات التي أصدرها مجلس المستشارين ذات قيمة مرجعية هامة في سياق الرسم الجماعي معالم النموذج التنموي المغربي الغد، وبالخصوص تلك المتضمنة في الوثيقة المرجعية بشأن معالم النموذج المغربي للعدالة الاجتماعية وإعلان الرباط للعدالة الاجتماعية"، والمبادئ التوجيهية من أجل إعادة بناء المنظومة الوطنية للحوار الاجتماعي، فضلا عن التوصيات المتعلقة بتنزيل مشروع الجهوية المتقدمة الصادرة عن الملتقى البرلماني للجهات المنعقد خلال دورات يونيو 2016 - نونبر 2017 ودجنبر 2018.
وختاما، وجب التأكيد على أن التفكير في مقومات النموذج التنموي يعتبر تمرينا معقدا، بالنظر إلى تعدد وتشعب الإشكاليات التي يطرحها، والتي تسائل أدوار الدولة ومؤسساتها والقطاع الخاص ومختلف الفعاليات السياسية والاجتماعية والمدنية، وهي الأسئلة التي حاولت الأوراق البحثية الواردة في هذا المؤلف الجماعي ملامستها من زوايا مختلفة ووفق مقاربات منهجية متعددة من شأنها أن ترضي فضول القارئ(ة) وأن تسهم في تعضيد المجهود الوطني للتوجه نحو المستقبل بكل ثقة.
وبالإضافة إلى الضمانات الجوهرية والإجرائية المتعلقة بتحقيق الطابع الفعلي للحقوق والحريات المضمونة دستورية، بما فيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية (الفصل 6 من الدستور)، فإن عددا من أحكام الدستور تتضمن موجبات تأويلية، يتحقق باستحضارها، التأسيس الحقوقي للنموذج التنموي الجديد، على الوجه الأمثل الذي توخاه المشرع الدستوري وتسهر على صيانته الإرادة العليا للدولة ممثلة في جلالة الملك.
ويمكن الإشارة إلى بعض من هذه الموجهات التأويلية، على سبيل المثال لا الحصر، فيما يلي: فبم الانفتاح والاعتدال والتسامح، الطابع الكوني لحقوق الإنسان وعدم قابليتها للتجزيء (التصدير)، الحقوق والمصالح المشروعة للمواطنات والمواطنين المقيمين في الخارج (الفصل 16)، المساواة بين الجنسين (الفصل 19). التنظيم المستقل لبعض المجالات (الفصلين 26 و28)، الإدماج، الوقاية من الهشاشة، إعادة التأهيل، الاندماج (الفصلان 33 و 34)، تعزيز العدالة الاجتماعية (الفصل 35). الرعاية الخاصة للفئات الاجتماعية الأقل حظا الفصل 35)، روح المسؤولية والمواطنة الملتزمة (الفصل 37)، مبادئ التنظيم الجهوي والترابي المنصوص عليها في الفصلين 136 و 140، وكذا مفهوم المكتسبات في مجال الحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في الفصل 175
وعليه، تعتبر أن إحدى المرتكزات المعيارية للنموذج التنموي تتأسس على الربط بين العد التين الاجتماعية والمجالية، بوصفها أساس النموذج التنموي المغربي فيد البناء، انطلاقا من أحكام الفقرة الثالثة من الفصل 35 من الدستور التي تحدد طبيعة الالتزام الإيجابي للدولة بالعمل على تحقيق تنمية بشرية مستدامة من شأنها تعزيز العدالة الاجتماعية"، وهو التزام يأتي إعمالا لاختيار العدالة الاجتماعية كإحدى دعامات المجتمع المتضامن، المحددة عناصره في التصدير الذي يشكل جزءا لا يتجزأ من الدستور.
ثانيا. مرتكزات القانون الدولي لحقوق الإنسان
في تكامل تام مع عناصر المرجعية المعيارية الوطنية المتضمنة في أحكام دستور بلادنا، يستلزم بناء مرجعية النموذج التنموي الجديد استحضار العناصر المعيارية والتصريحية للقانون الدولي لحقوق الإنسان.وفي هذا الصدد، نعتبر أن "إعلان الحق في التنمية يمكن أن يكون معيارا إرشاديا للنموذج التنموي فيد البناء، على النحو الذي أبرزه المقرر الخاص الأممي المعني بالحق في التنمية، في تقريره الصادر بتاريخ 2 غشت 2017.
وضمن هذا المنطق، وجب التأكيد على الترابط بين الحق في التنمية وباقي الحقوق الأخرى، وعلى أهمية ضمان عدد من الشروط الضرورية لأي نموذج تنموي مرتكز على قيم حقوق الإنسان وتتسم بطابع دامج ومؤهل للفئات الهشة، ومنها شروط عدم التمييز، وتحقيق المساواة بين الجنسين، وضمان حماية المكتسبات التي حققها بلادنا في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي مجال الحكامة الجيدة واعمال مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
لذا، فإن أي تصور للنموذج التنموي قيد البناء، يجب أن ينبغي أيضا على الإطار المفاهيمي الأممي للحق في التنمية كما ورد في إعلان الحق في التنمية لسنة 1986 بما في ذلك اعتبار التنمية "عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية شاملة غايتها تحسين رفاهية السكان كافة باستمرار " واستحضار الطابع الأولي للعناصر المكونة لهذا الحق، ومنها الحق في الغذاء والصحة والتعليم والسكن اللائق والعمل على النحو المنصوص عليه في المادة 8 من الإعلان، وكون الحق في التنمية حقا غير قابل للتصرف (المادة 1-1)، وتأكيد الإعلان جميع جوانب هذا الحق متلاحمة ومترابطة (المادة 9-1)، وأن الدول هي المسؤولة الأولى عن إيجاد الظروف الوطنية والدولية المواتية الإعمال الحق في التنمية (المادة 3-1)۔
وتجدر الإشارة بهذا الخصوص إلى قرار مجلس حقوق الإنسان، رقم 28/30
، المعتمد في 2 أكتوبر 2015، المعنون "الحق في التنمية"، والذي تم التأكيد فيه على أن " الدول هي المسؤولة في المقام الأول عن تهيئة الظروف الوطنية والدولية المواتية لإعمال الحق في التنمية". وقد جرى تجديد التأكيد على الالتزام الإيجابي للدولة، في قرار مجلس حقوق الإنسان رقم 9/39، المعتمد في 27 سبتمبر 2018، المعنون" الحق في التنمية.
وضمن نفس المنطق، واستنادا إلى الرؤية الأممية التي تربط بشكل متكامل بين إعلان الحق في التنمية وأهداف التنمية المستدامة، يجب أن تشكل أهداف التنمية المستدامة ومؤشراتها المعتمدة أمميا، جزءا من الإطار المنطقي للجيل الجديد من السياسات العمومية الأفقية، القطاعية والترابية التي سيتم اعتمادها في إطار النموذج التنموي الجديد، وهي السياسات التي يتعين أن تقوم على المستوى الوطني، بأجرأة الالتزام المقدم في خطة التنمية المستدامة لعام 2030 "بعدم استثناء أي شخص" والاعتراف بأن القضاء على الفقر بجميع أشكاله وأبعاده شرط لا غنى عنه لتحقيق التنمية المستدامة.
ويجدر التذكير في هذا الصدد بقرار مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة، رقم 21/35
المعتمد في 22 يونيو 2017، المعنون "إسهام التنمية في التمتع بجميع حقوق الإنسان"، والذي أكد فيه المجلس من جديد أن " خطة عام (30(20 خطة ذات نطاق وأهمية غير مسبوقين حظيت بقبول كل البلدان وتنطبق على الجميع، وأن أهداف التنمية المستدامة وغاياتها متكاملة وغير قابلة للتجزئة، وهي عالمية بطبيعتها وشاملة من حيث تطبيقها وتراعي أختلاف الواقع المعيش في كل بلد وقدراته ومستوى تنميته، وتحترم السياسات والأولويات الوطنية، بينما تظل متسقة مع القواعد والالتزامات الدولية ذات الصلة"
وسعيا إلى تأسيس إطار للسياسات العمومية يربط بين الالتزامات الإيجابية للسلطات العمومية التي ينص عليها الدستور في مجال ضمان الطابع الفعلي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية من جهة، وبين التزامات بلادنا الاتفاقية من جهة ثانية، فإن هندسة النموذج التنموي الجديد قيد البناء، يجب أن تسترشد في تحديد الرؤية والأهداف الاستراتيجية النموذج المذكور، بالمعايير التي حددها الفريق العامل المعني بالحق في التنمية، من أجل تحقيق خاصية "السياسات الإنمائية الشاملة التي تركز على الإنسان، وهي معايير تعزيز التحسين المستمر في مجال الرفاه الاجتماعي والاقتصادي، والحفاظ على نظم اقتصادية ومالية مستقرة على المستوى الوطني، وتعزيز وضمان إمكانية الوصول إلى فوائد العلم والتكنولوجيا، وتعزيز وضمان استدامة البيئة والاستخدام المستدام للموارد الطبيعية، والاستناد إلى مقاربة حقوق الإنسان في وضع وتنفيذ وتتبع وتقييم برامج التنمية، والتصحيح المستمر للتفاوتات الاجتماعية والمجالية، عبر "إصلاحات اقتصادية واجتماعية".
وفي سياق متصل، يتعين أن يضمن النموذج التنموي فيد البناء الآليات الكفيلة باعتبار مقاربة النوع بصورة ممنهجة عرضانية في جميع السياسات العمومية، التي تترتب عن إعمال النموذج المذكور، ويمكن في هذا الصدد الاسترشاد بالتوصيات الصادرة عن اجتماع الخبراء الأمميين " للنظر في الثغرات والتحديات وأفضل الممارسات المتصلة بتمتع جميع النساء والبنات تمتعا كاملا بحقوق الإنسان وتعميم المنظور الجنساني بصورة منهجية في عملية تنفيذ خطة التنمية المستدامة لعام 2030 ". وفي هذا الصدد، يعتبر المسار الحالي لإعداد النموذج التنموي فرصة سانحة لضمان تحول إيجابي متسارع وغير قابل للتراجع، لتصحيح أوجه عدم المساواة بين الجنسين على مستوى الأدوار والمسؤوليات، وامكانية الحصول على الموارد، والمشاركة وصنع القرار، والأعراف الاجتماعية.
ثالثا، المرتكزات الواردة في الخطب الملكية والتقارير الوطنية الرسمية
استكمالا لعناصر المرجعية المعيارية الوطنية المتضمنة في أحكام دستور بلادنا وعناصر مرجعية القانون الدولي لحقوق الإنسان، فإن النموذج البديل يجب أن يستلهم معالمه من التوصيات والخلاصات المتضمنة في الرصيد الوثائقي الوطني، وعلى رأسها الخطب والرسائل الملكية، بوصفها وثائق مرجعية للسياسات العمومية، المحددة المعالم والخصائص الأساسية للنموذج التنموي المغربي، خاصة ما جاء في نص الرسالة الملكية الموجهة إلى المشاركين في أشغال المنتدى البرلماني الثاني للجهات، في 16 نونبر 2017، والخطاب الملكي السامي بمناسبة ترؤس جلالته افتتاح دورة أكتوبر سنة 2017، وكذا الخطاب الملكي السامي بمناسبة عيد العرش المجيد بتاريخ 29 يوليوز 2017 واللذين ذكر فيها أيضا جلالته بالصعوبات والاختلالات التي تواجه تطور نموذجنا التنموي، وكذا الرسالة الملكية الموجهة للمشاركين في الدورة الثالثة للمنتدى البرلماني الدولي للعدالة الاجتماعية المنظم من طرف مجلس المستشارين يومي 19 و 20 فبراير 2018، والتي تعتبر بوصلة يجب أن تقود عمل جميع الفاعلين والمؤسسات من أجل بلورة رؤية مندمجة للنموذج السياسي والاقتصادي والاجتماعي ببلادنا ولمنظومة الحكامة المركزية والترابية في كل أبعادها".وتشكل التوصيات الواردة في الآراء والتقارير الصادرة عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أيضا مراجع ذات أهمية بالغة في هذا الشأن، لا سيما الرأي بشأن التوزيع المجالي للاستثمار العمومي في أفق الجهوية المتقدمة (2015)، بشأن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (2013)، وبشأن الولوج المنصف والمعمم إلى الخدمات الصحية (2013)، وبشأن الميثاق الوطني للبيئة والتنمية المستدامة (2012)، والميثاق الاجتماعي الجديد (2011)، وتشغيل الشباب (2011)، والاقتصاد الأخضر (2012)، والنظام الضريبي المغربي (2012)، وتدبير وتنمية الكفاءات البشرية (2013)، والتكوين مدى الحياة (2013)، وتجانس السياسات القطاعية (2014)، والاقتصاد الاجتماعي والتضامني (2015). وإدماج مقتضيات التغيرات المناخية في السياسات العمومية (2015)، ومتطلبات الجهوية المتقدمة وتحديات إدماج السياسات القطاعية (2016)، والمسؤولية المجتمعية للمنظمات (2016)، و الثروة الإجمالية للمغرب ما بين 1999 و 2013 - تقرير الدراسة حول الرأسمال غير المادي عامل لخلق الثروة الوطنية وتوزيعها المنصف، وتنمية العالم القروي (2017)، وتغيير النموذج المعتمد من أجل بناء صناعة دينامية في خدمة تنمية مطردة ومدمجة ومستدامة (2017)
كما يتعين ترصيد التوصيات الواردة في التقارير ذات الطبيعة الإستراتيجية التي همت التفكير في النموذج التنموي المغربي من منظور مندمج وعاير للقطاعات كتقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية (2013)، وتقرير اللجنة الاستشارية للجهوية (2010)، وتقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي حول الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015-2030 من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء (2016) والتقرير حول الثروة الإجمالية للعقرب ما بين 1999 و2013 (2016)، والدراسة الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط بشأن أقف المغرب 2030 (2011)، وتقرير 50 سنة من التنمية البشرية وآفاق سنة 2025 وخاصة منها ما يتعلق برهانات المستقبل الخمس في إطار السيناريو المأمول في أفق "السير نحو 2025"؛ وكذا نتائج تشخيص تطور النموذج التنموي المغربي التشخيص المتعدد الأبعاد الذي سهر على إنجازه مركز التنمية التابع لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بتنسيق من طرف مصالح رئاسة الحكومة، وبمشاركة العديد من الفاعلين في الحقل الاقتصادي والاجتماعي من القطاعين العام والخاص، والتي تشكل كلها مداخل أساسية لبناء نموذج جديد للتنمية تمكن البلاد من إنتاج الثروة وتجاوز محدودية واختلالات النموذج التنموي القائم.
وفي نفس السياق، تعتبر التوصيات التي أصدرها مجلس المستشارين ذات قيمة مرجعية هامة في سياق الرسم الجماعي معالم النموذج التنموي المغربي الغد، وبالخصوص تلك المتضمنة في الوثيقة المرجعية بشأن معالم النموذج المغربي للعدالة الاجتماعية وإعلان الرباط للعدالة الاجتماعية"، والمبادئ التوجيهية من أجل إعادة بناء المنظومة الوطنية للحوار الاجتماعي، فضلا عن التوصيات المتعلقة بتنزيل مشروع الجهوية المتقدمة الصادرة عن الملتقى البرلماني للجهات المنعقد خلال دورات يونيو 2016 - نونبر 2017 ودجنبر 2018.
وختاما، وجب التأكيد على أن التفكير في مقومات النموذج التنموي يعتبر تمرينا معقدا، بالنظر إلى تعدد وتشعب الإشكاليات التي يطرحها، والتي تسائل أدوار الدولة ومؤسساتها والقطاع الخاص ومختلف الفعاليات السياسية والاجتماعية والمدنية، وهي الأسئلة التي حاولت الأوراق البحثية الواردة في هذا المؤلف الجماعي ملامستها من زوايا مختلفة ووفق مقاربات منهجية متعددة من شأنها أن ترضي فضول القارئ(ة) وأن تسهم في تعضيد المجهود الوطني للتوجه نحو المستقبل بكل ثقة.