تحميل ملخص كتاب مبادئ علم الاجرام والعقاب pdf
الدكتورة سميـــرة أقــرورو
أستاذة علم الإجرام بكلية الحقوق الدار البيضاء
السداسي الخامس : القانون الخاص
محاضرات فـي علم الإجرام
-المبادئ الأساسية
-أهم المدارس والنظريات
مقدمة علم الإجرام
ترتبط الجريمة بالوجود البشري، وتعتبر قصة قابيل الذي قتل أخاه هابيل أولى الجرائم في تاريخ البشرية، وقد اختلف الباحثون والمتخصصون في تفسير أسبابها ودوافعها على مر العصور، كما اختلفوا في كون الجريمة متأصلة في الإنسان ومورثة أو بكونها سلوكا مكتسباً؛ وفي هذا انقسم علماء الإجرام بين تيارين الأول يقوده العالم الإيطالي لمبروزو (LOMBROSO) الذي ربط بين السلوك الإجرامي وبين التكوين الجسماني والبيولوجي للفرد. وتيار آخر يربط الفعل الإجرامي بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية وبالظروف النفسية للإنسان المجرم. فهي دراسات إذن برزت وتألقت بالأساس في علم الإجرام،
هذا العلم الذي يهدف إلى دراسة أسباب الجريمة ودوافعها، فما المقصود به؟؟
وماهي المذاهب والمدارس البارزة فيه؟؟
وكيف تناول الجريمة والمجرم؟؟
وماهي أبرز النتائج التي خلص علماؤه إليها ؟؟
هذا ما سنتناوله بشيء من التفصيل في هذه الدراسة وذلك من خلال خطة البحث التالية :
فصل تمهيدي
نتناول فيه :
المبحث الأول: ماهية وفروع علم الإجرام.
المبحث الثاني: علم الإجرام وباقي العلوم الجنائية.
المبحث الثالث: نشأة وتطور علم الإجرام.
الفصل الأول: موضوع ومناهج البحث في علم الإجرام.
المبحث الأول موضوع علم الإجرام.
المبحث الثاني: مناهج البحث في علم الإجرام.
الفصل الثاني: المذاهب العلمية في تفسير السلوك الإجرامي.
المبحث الأول: المذهب الفردي.
المبحث الثاني: المذهب الاجتماعي.
المبحث الثالث: المذهب المختلط.
ماهية وفروع علم الإجرام
- أولا : تعريف علم الإجرام
هو ذلك الفرع من العلوم الجنائية الذي يبحث في الجريمة باعتبارها ظاهرة في حياة الفرد، وفي حياة المجتمع لتحديد وتفسير العوامل التي أدت إلى ارتكابها، وهو أيضا ذلك العلم الذي يدرس الظاهرة الإجراميةle phénomène criminel للوقوف على أسبابها بغية الوصول إلى أنجع الحلول أو الأساليب للقضاء على هذه الأسباب أو الحد من تأثيرها بقدر الإمكان.
فمكافحة ظاهرة الإجرام في أي مجتمع تصبح أيسر وأكثر فاعلية متى استندت إلى تحديد وفهم صحيحين لأسباب تلك الظاهرة في ذلك المجتمع.
وفي السياق ذاته ذهب إميل دوركايم Emile Durkheim " إلى أن الجريمة هي موضوع بحث علم خاص هو علم الإجرام على أن يكون مفهوما لدينا أن الجريمة هي كل فعل معاقب عليه قانونا"( ).
فمن مجمل التعريفات الواردة أعلاه يبدو واضحا أن علم الإجرام هو العلم الذي يبحث في الجريمة من وجهة معينة تختلف تماما عن الوجهة التي يعنى بها غيره من العلوم الجنائية، فهو ينظر إلى الجريمة كظاهرة اجتماعية حتمية، وإن اختلفت باختلاف الزمان والمكان، وهذا تحديدﴽ ما دفع بعض الباحثين في هذا المجال إلى القول بوجود ما يسمى بقانون الكثافة الجنائي؛ الذي يقضي بأن ظروفًا بيئية معينة إذا تضافرت معها عوامل شخصية معينة، فإنها تنتج في مجتمع ما عدداً معينا من الجرائم.
- ثانيا: أهمية دراسة علم الإجرام
ترتبط أهمية هذا العلم بشكل عام بتفريد العقوبة تشريعاً وقضاءًً وتنفيذاً.
فمن حيث التفريد التشريعي للعقاب؛ يستعين المشرع بأبحاث علم الإجرام ليقرر لكل طائفة من المجرمين العقوبات التي تتناسب مع ظروفهم، ومنه مثلا العقوبات المقررة للأحداث والتي تتدرج معهم بحسب سنهم....
ومن حيث التفريد القضائي؛ يأخذ القاضي عند تقديره للعقوبة المناسبة ظروف كل جريمة ودوافعها، وذلك في نطاق سلطته التقديرية حيث يمنحه القانون سلطة تقدير العقوبة المناسبة بين حد أدنى وحد أقصى للعقوبة أو عند تقديره وقف تنفيذ العقوبة.
أما التفريد التنفيذي، فيتجلى من خلال أخد السلطات المختصة بتنفيذ العقوبة أسباب ارتكاب الجريمة بعين الاعتبار؛ ففي ضوء الظروف التي ارتكب المجرم فعله تحت تأثيرها تتحدد طريقة تنفيذ العقاب، فيراعى في ذلك مثلا سن المجرم، حيث يودع الأحداث في مؤسسة غير التي يودع فيها الرجال أو خطورته، إذ يودع مرتكبوا الجريمة لأول مرة في مكان غير الذي يودع فيه العائدون أو معتادوا والإجرام....
- ثالثا: فروع وتقسيمات علم الإجرام
يضم علم الإجرام ثلاث فروع أساسية هي:
- علم الإجرام العام.
- علم الإجرام الخاص.
- علم الإجرام المعملي.
علم الإجرام العام: وهو علم موضوعي تركيبي (مركب من عدة علوم) يدور موضوعه الأساسي حول تحقيق نوع من الترابط والمقارنة بين نتائج علوم أخرى تهتم بالظاهرة الإجرامية بغية الوصول إلى بيان نموذجي منسق exposé systématique يساعد في وضع دراسات تمهيدية لفهم الظاهرة الإجرامية.
علم الإجرام الخاص: ويبحث في ظواهر إجرامية محددة؛ فمحوره الظاهرة الإجرامية وليس " المذنب " كما في علم الإجرام المعملي.
علم الإجرام المعملي: ومحوره التعمق في جزئية معينة ومحددة من خلال دراسة حالات إجرامية فردية ( كإدمان الخمور، أو اعتياد الإجرام.....).
علم الإجرام وباقي العلوم الجنائية
تمهيــد:
تشترك العلوم الجنائية مع علم الإجرام في دراستها وتمحيصها للظاهرة الإجرامية، فيما تستقل عنه في مظاهر أخرى. فماهي مظاهر الإتصال و الانفصال هذه، هذا ما سنجيب عنه فيما سيأتي.
* الصلة بين علم الإجرام وعلم الحياة الجنائي (La biologie criminelle) أو علم الإجرام البيولوجي (La criminologie biologique)
يهتم علم الحياة الجنائي بدراسة وظائف الأعضاء وطبيعتها في التأثير على السلوك الإجرامي وكذا تأثير الإفرازات الغددية على الجهاز العصبي والعقلي للإنسان، ويعنى بصفة خاصة بدراسة عوامل الوراثة ومدى تأثيرها على السلوك المنحرف( ). وقد ازدهر هذا العلم بفضل الدراسات التي قام بها بعض العلماء في كل من ألمانيا والنمسا بصفة خاصة، وأشهرها الدراسات التي أجراها Exner في ألمانيا و Gray وليز Lenz في النمسا.
* الصلة بين علم الإجرام وعلم النفس الجنائي (La psychologie criminelle) أو علم الإجرام النفسي (La criminologie psychologique)
ويهتم بالسلوك الإجرامي من الزاوية السيكولوجية، حيث يعالج التكوين النفسي للإنسان المجرم ( كمستوى ذكائه وغرائزه وانفعالاته ). هذا التكوين الذي يضفي على التحرك العضوي الجسماني الصبغة الفردية، ويميل هذا العلم تدريجيا إلى التلاشي لصعوبة الفصل بينه وبين علم الانتروبولوجيا الجنائي.
ويقدم هذا العلم نتائج مفيدة في سبيل توجيه معاملة المجرم، ولا زالت جامعة Milan الكاثوليكية في إيطاليا تدرس السلوك الإجرامي من هذه الزاوية إلى يومنا هذا تحت إشراف الأستاذ (R.P.Gemelli).
* الصلة بين علم الإجرام وعلم الانتروبولوجيا الجنائي أو علم الطبائع الإجرامية (L’anthropologie criminelle )
وهو علم يقوم بدراسة أسباب الجريمة لدى الفرد بهدف معرفة سبب ارتكاب هذا الشخص بالذات جريمة معينة؟؟ ويعتمد في سبيل ذلك أسلوبين:
الأول: الدراسة العضوية للمجرم، فهو يبحث في تكوين أعضائه الخارجية وأجهزته الداخلية وفي كيفية أداء هذه الأعضاء والأجهزة لوظيفتها، وفي إفرازات الغدد ومدى قربها أو بعدها عن المعدل المألوف للشخص المعتاد؛ فقد أثبتت البحوث العلمية أن لإفرازات الغدد تأثيرﴽ مباشرﴽ على سلوك الإنسان.
والثاني: الدراسة النفسية للمجرم وتتناول دراسة الجوانب المختلفة لنفسية المجرم وشخصيته، كعواطفه وأخلاقه وغرائزه ومدى استجابته للمؤثرات الخارجية، ويعتبر لمبروزو بحق منشئ هذا العلم وكان له الكثير مــــن التلاميذ الذين تابعوا أبحاثه فـي إيطاليا أشهرهم Tomassio و Virgilio و Ferri و Garofalo وDi tullio .
* الصلة بين علم الإجرام وعلم الاجتماع الجنائي:( ) ( )La Sociologie criminelle
يؤسس علم الاجتماع الجنائي دراساته بصفة أساسية على الإحصاءات الجنائية واستخلاص النتائج المفيدة ذات الدلالة منها، ويفيد في إعطاء رؤية علمية للظاهرة الإجرامية باعتبارها ظاهرة اجتماعية؛ فيبحث في مدى الصلة بينها وبين غيرها من الظواهر كالظاهرة الطبيعية والظاهرة الاقتصادية... بهدف الوصول إلى مدى تأثرها بكل هذه الظواهر. فهو لا يدرس الجريمة باعتبارها ظاهرة في حياة المجرم يتأثر تحققها بظروفه الشخصية، وإنما باعتبارها ظاهرة في حياة المجتمع تتأثر بالظروف التي يعيش فيها أو يمر بها. ومن مؤسسيه فيرى وتارد، ودوركايم وجرسبيني، ويلقى هذا العلم عناية خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
* الصلة بين علم الإجرام والسياسة الجنائية:
يخرج بعض( ) الباحثين السياسة الجنائية من نطاق علم الإجرام، باعتبارها لا تبحث في أسباب الجريمة وبمعنى أوضح في عواملها - الفردية والاجتماعية - ولاعتنائها الخاص برسم الخطط وتخير أنسب الأساليب لمكافحة ظاهرة الإجرام. فعلم الإجرام يبحث فيما هو كائن؛ فهو يمحص الجريمة كظاهرة حدثت في حياة الفرد والجماعة ليحدد دوافع ارتكابها، بينما تبحث السياسة الجنائية فيما يجب أن يكون عليه القانون الجنائي لمكافحة الجريمة، فتحدد أفضل النصوص الجنائية التي يكفل تطبيقها تحقيق هذا الهدف في ضوء الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة في المجتمع.
وعلى الرغم من استقلال علم الإجرام عن السياسة الجنائية فإن الصلة بينهما وثيقة؛ فالسياسة الجنائية تأخذ دراسات وأبحاث بل ونتائج علم الإجرام بالاعتبار في نهجها لمكافحة الجريمة.
ومن ذلك مثلا أن العقوبة كانت فيما مضى تطبق على من يحكم عليهم بها في مكان واحد وبطريقة واحدة، فلما أثبتت دراسات علم الإجرام اختلاف أسباب الجريمة واختلاف شخصيات المجرمين أدى ذلك إلى اختلاف وسيلة تنفيذ العقوبة باختلاف شخصيات المجرمين الذين توقع عليهم وهو ما يعرف بنظام تفريد العقاب.
* الصلة بين علم الإجرام وعلم العقاب La science pénitentiaire / pénologie
علم العقاب هو ذلك العلم الذي يتوخى الوقاية من الجريمة والتصدي لها وعلاجها، فهدفه اكتشاف أفضل الوسائل وأنجع السبل لتقويم وتصحيح سلوك المجرم ورده إلى سواء السبيل( ). ويتفق علم الإجرام وعلم العقاب في أن كليهما من العلوم المساعدة للقانون الجنائي، والتي تستهدف معاونته في تحقيق الدفاع الاجتماعي، ومع ذلك فلكل منهما مجاله المستقل عن الآخر؛ فعلم الإجرام يبحث حصريا في أسباب الجريمة ودوافع ارتكابها كما سلف بيانه، بينما يبقى هدف علم العقاب بالأساس تحديد الأغراض الاجتماعية المتوخاة من العقوبات والتدابير الوقائية، واستخلاص القواعد التي ينبغي مراعتها في تنفيذ هذه العقوبات والتدابير حتى تتحقق الأهداف المرتقبة أو المتوخاه منها.
على أن استقلال علم الإجرام عن علم العقاب لا ينفي العلاقة بينهما، بل إن هذه العلاقة تعد نتيجة حتمية للصلة بين الجريمة والعقوبة. فالعقوبة أثر يرتبه القانون على الجريمة وهدفها الأساسي هو مكافحة الظاهرة الإجرامية، ولاشك أن تحقيق ذلك يتوقف على معرفة الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة حتى تكون العقوبات والتدابير المرصدة لها أنجع و أكثر فعالية، ومن هنا فالدراسة الجدية لعلم العقاب تتطلب إلمامًا بنظريات ومبادئ علم الإجرام.
*الصلة بين علم الإجرام وعلم الأدلة الجنائية: ( )
يستقل علم الأدلة الجنائية عن علم الإجرام، إذ يبحث الأول في الوسائل العلمية والفنية التي تكشف وتفضح مرتكب الجريمة، وبذلك فهو لا يفسر السلوك الإجرامي بتحديد دوافعه - فردية كانت أو اجتماعية - كما أنه لا يتناول الجريمة كظاهرة إنسانية حتمية لابد أن تتحقق متى توافرت مجموعة من العوامل الكامنة في المجرم أو المحيطة به ( اقتصادية، اجتماعية....). وإنما هدف هذا العلم بالأساس التوصل إلى مرتكب الفعل الإجرامي وظروف ارتكابه من خلال جمع وتحليل العناصر المادية التي تدل على شخص المجرم.
ويعتمد في ذلك على تقنيات علمية وأساليب فنية وتكنولوجيا علمية ترتبط بالتطور المعرفي والتكنولوجي السائد في المجتمع، ومن ذلك مثلا علم البصمات، علم الأسلحة النارية والطب الشرعي وغيرها من العلوم والأساليب الحديثة التي تكشف عن هوية المجرم من خلال الآثار والعلامات التي خلفتها الجريمة( ). كما يخدم علم الأدلة الجنائية علم الإجرام من خلال الكشف عن ظروف، بل وكيفية ارتكاب الجريمة، وهو ما يفسر دون شك الخطورة الإجرامية الكامنة في المجرم ومدى استعداده الإجرامي.
* الصلة بين علم الإجرام والقانون الجنائي:
يذهب البعض إلى القول بوحدة الموضوع بين علم الإجرام والقانون الجنائي لاشتراكهما في البحث في الظاهرة الإجرامية، غير أن اتجاها آخر لا يتفق مع هذا الطرح ويؤكد الاختلاف بينهما موضوعًا و أسلوبًا.
فمن حيث الموضوع لا يبحث القانون الجنائي في أسباب الظاهرة الإجرامية كما يفعل علم الإجرام، وإنما يبحث في أنواع الجرائم المختلفة ويحدد أركانها، محددا لكل منها العقاب المناسب.
ومن حيث الأسلوب أو منهج البحث يركز القانون الجنائي على دراسة وتفسير القاعدة القانونية واستخلاص القواعد العامة وتحديد الاستثناءات التي يوردها القانون عليها ومجال تطبيقها ونطاقه، بينما يتناول علم الإجرام الظاهرة الإجرامية من خلال الإحصاءات الجنائية التي يستخلص من خلالها قواعد عامة تحكم الظاهرة الإجرامية.
غير أن استقلال علم الإجرام عن القانون الجنائي لا ينفي العلاقة بينهما، فالأخير هو الذي يحدد الواقعة الإجرامية أو السلوك المنحرف الذي يتناوله علم الإجرام بالتحليل، فهو إذن الذي يحدد لعلم الإجرام الإطار الذي يعمل في داخله.
ومن ناحية أخرى يستعين المشرع الجنائي بأبحاث علماء الإجرام في تَفَهُّم أسباب ودوافع الجريمة، وهو ما يفيده حتما في وضع أنسب وأنجع العقوبات. كما يأخذ القاضي الجنائي ظروف وأسباب ارتكاب الجريمة بعين الاعتبار في حدود سلطته التقديرية عند تقديره للعقوبة المناسبة. وبهذا الشكل يعتبر علم الإجرام مصدرﴽ من مصادر القاعدة القانونية ( الجنائية )، والقانون الجنائي بدوره مصدرﴽ لعلم الإجرام ومن هنا ذهب البعض " إلى أن الجريمة ليست حقيقة في الواقع بل حقيقة في القانون "( ).
نشأة وتطور علم الإجرام.
بدأت الإرهاصات الأولى لدراسة الجريمة والمجرم في عهد فلاسفة اليونان، حيث يعتبر فلاسفة اليونان أول من حاول تفسير السلوك الإجرامي، وكانت الجريمة وفق المنطق الإغريقي قدر إلآهي، واعتبر المجرم إنسان أصابته لعنة الآلهة.
وقد ربط سقراط الخطيئة والشر بالجهل، وارتأى في المعرفة حماية من دوافع اللذة والشهوات، وبالتالي تحقيقاً للسعادة.
أما أفلاطون فقد ذهب إلى أن السماء ليست مسؤولة عن الأخطاء التي يأتيها البشر باعتبارهم مُخَيرين بين الرذيلة والفضيلة؛ والمجرم حسبه لا يقوم بنشاطه إلا لنقص في تكوينه أو في قواه العقلية، أو لتأثير دوافع خبيثة تسيطر عليه وتحيد به عن اختيار الصواب (الفضيلة)، ولذلك فالإنسان المجرم حسب أفلاطون مريض يحتاج إلى علاج يتمثل في العقاب.
وقد بقي هذا الفكر قائمًا ومسيطرًا حتى نهاية العصور الوسطى، حيث تغير مع بزوغ معرفة جديدة.
وابتداءً من القرن السادس عشر وإلى أواسط القرن التاسع عشر سادت دراسات مختلفة، حاولت تفسير السلوك الإجرامي، ومن أبرز شراحها دي لابورطا (DE la porta) وفيرجيليو (Virgilio) في إيطاليا وتوماس مور (Thomas) وداروين (Darwin) في بريطانيا، وموريل (Morel) في فرنسا.
إلا أن الدراسات الجدية لعلم الإجرام لم تبدأ إلا في أوائل القرن التاسع عشر، حيث أصدر العالم الفرنسي جيري (Guerry) (1866- 1802) كتابا( ) تناول فيه أسباب الجريمة الفردية المتعلقة بشخص المجرم ( كسنه وجنسه... ) ثم أضاف الأسباب الاجتماعية المحيطة بالمجرم ( كمهنته ومستوى تعليمه وعوامل المناخ... ) معتمدﴽ في كل ذلك على الإحصاءات الجنائية.
وفي نفس المرحلة أصدر العالم البلجيكي( )Adolphe Quetelet (1874- 1796) كتابه في علم الإجرام اعتمد فيه الأسلوب الإحصائي، وأكد بدوره أن الظاهرة الإجرامية محكومة بعوامل مختلفة (سن المجرم، جنسه ومستوى معيشته وتأثير العوامل المناخية... ).
ويؤخذ على أبحاث العالمين الفرنسي Guerry والبلجيكي Quetelet( ) الإسراف في الاعتداد بالعوامل الاجتماعية على حساب العوامل الفردية، فيما اعتبر آخرون النظام الاجتماعي سببا للظاهرة الإجرامية، أما المجرم فهو ضحية لهذا النظام.
ورغم كل الانتقادات التي وجهت للدراسة التي قام بها هاذين العالمان، فإن لهما الفضل الكبير في إلقاء الضوء على العوامل الاجتماعية للسلوك الإجرامي بعد أن هيمنت العوامل التكوينية لدى المجرم (جسمه، نفسيته...). في الدراسات السابقة، فإليهما يرجع الفضل في وضع اللبنات الأولى لعلم الاجتماع الجنائي.
وفي سنة 1876 أخذت الدراسات المرتبطة بالسلوك الإجرامي منحًا تطوريًا، حيث قام الطبيب الإيطالي لمبروزو (Lombroso) بدراسة بيولوجية لسلوك المجرم في كتابه " الإنسان المجرم L’homme criminel "( ).
وفي سنة 1881 ظهر كتاب " السوسيولوجيا الجنائية La sociologie criminelle " للأستاذ أنريكو فيري (Enrico Ferri) تلميذ الطبيب لمبروزو وأستاذ القانون الجنائي وعلم الإجرام . وبعده بأربع سنوات (سنة 1885) ظهر كتاب "علم الإجرام La criminologie " لأستاذ القانون الجنائي والقاضي رفاييل جاروفالو (R.Garofalo). ويعتبر هؤلاء الثلاثة بحق أقطاب علم الإجرام، فبفضل أعمالهم عرف هذا العلم طريقه نحو التطور.
وقد كان لمبروزو أستاذﴽ للطب الشرعي بجامعة Turin وعمل في خدمة الجيش الإيطالي فترة من الزمن درس فيها الخصائص العضوية للمرضى ثم المجرمين، فلاحظ فيها وجود شذوذ في التكوين الجسماني لعدد من مرتكبي جرائم العنف. كما قام بفحص جماجم عدد كبير من المجرمين عاين فيها شذوذﴽ في الأسنان وحجم الجمجمة وشكل الجبهة... وقد انتهى لمبروزو من خلال مقارنة جماجم المجرمين بجماجم بعض الحيوانات المتوحشة وجمجمة الإنسان البدائي إلى أن المجرم الحقيقي هو " المجرم بالفطرة Le criminel - né / The born criminal"، وهو ذلك الإنسان الذي يولد مجرمًا بطبيعته نتيجة ما ورثه عن أصله الأول من خصائص بيولوجية دفعته بالتفاعل مع شخصيته إلى ارتكاب الجريمة.
وقد كان للمبروزو كبير الفضل في إنشاء وازدهار علم " الأنتروبولوجيا " حيث قسم المجرمين إلى طوائف بحسب اختلافهم، محاولا دراسة كل مجموعة وبيان الصلة بينها وبين السلوك الإجرامي. وبذلك يعد لمبروزو المنشئ الأول لعلم الطبائع الإجرامية، كما كان له الفضل في الدعوة إلى اتخاذ التدابير الوقائية لحماية المجتمع من جريمة مرجح احتمال ارتكابها.
غير أن دراسة لمبروزو قد جانبت الصواب حين اختزلت أسباب الجريمة في شخصية المجرم، مهملة كل تأثير للعوامل الاجتماعية التي لا يمكن بأي حال إغفال تأثيرها وقوتها الدافعة إلى السلوك الإجرامي.
أما أنريكو فيري، فرغم اعتماده الخط العلمي الذي وضعه لمبروزو - باعتباره تلميذ هذا الأخير- إلا أنه اختلف معه في تحديد أسباب الجريمة، مُرْتَئِِيًّا أنها ترتكب بسبب التكوين الفردي للإنسان ( العامل الشخصي العضوي ) والعامل الطبيعي والجغرافي وكذا العامل الاجتماعي.
وقد حاول فيري إبراز أهمية عامل البيئة في خلق الجريمة فذهب في كتابه " علم الاجتماع " إلى أن الجريمة خلاصة تفاعل أنواع ثلاثة من العوامل هي:
1) العوامل الطبيعية والجغرافية ( الجنس، المناخ، والموقع الجغرافي...).
2) العوامل الأنتروبولوجية؛ وتضم السن والنوع والخصائص العضوية والفيزيولوجية.
3) العوامل الاجتماعية ويدخل فيها كثافة السكان والانتماء الديني والسياسي والظروف الاقتصادية...
وقد أدى إدخال العامل الاجتماعي إلى جانب العوامل العضوية والطبيعية إلى حدوث ثورة في الدراسات الإجرامية كما سيأتي بيانه لاحقا.
أما جاروفالو فقد أضاف هو الآخر إلى التكوين الجسمي والنفسي المعيب لدى المجرم الظروف الاجتماعية، وقسم الجرائم إلى طبيعية تمس بالشعور العام للمجتمع وأخرى اعتبارية هي من صنع المشرع الذي يفرضها في ظروف زمنية ومكانية معينة.
وإذا كان لمبروزو وفيري وجاروفالو أقطاب علم الإجرام، فإن تفسير الظاهرة الإجرامية عرف نقلة نوعية بعدهم، حيث تلاحقت الأفكار وتمازجت فيما بعد وتعددت الإصدارات في الموضوع، ومن ذلك الكتاب الذي أصدره دي توليو " Di tullio " سنة 1929 عن " التكوين الجرمي في سببية وعلاج الجريمة " ( ). وفي السياق ذاته صدر سنة 1963 كتاب علم الإجرام للأستاذ الفرنسي بيناتيل "Pinatel". وهذه فقط بعض المراجع التي صدرت في الموضوع ويكفي الرجوع إلى مؤلفات علم الإجرام للإطلاع على أشهرها.
أما الدراسات الحديثة فقد حاولت توحيد الجهود السابقة والتنسيق بينها من خلال مقارنة النتائج التي وصل إليها علماء الإجرام في القرن الماضي، كما تم إنشاء هيئات علمية مختلطة، حيث أنشئت الجمعية الدولية لعلم الإجرام سنة 1934 وعقدت العديد من المؤتمرات في السياق ذاته، أولها مؤتمر روما سنة 1938، ثم تلاه مؤتمر باريس سنة 1950، وفي سنة 1955 انعقد المؤتمر الدولي الثالث لعلم الإجرام في لندن، وتلاه بعد ذلك المؤتمر الرابع في لاهاي سنة 1960....
الفصل الأول: موضوع ومناهج البحث في علم الإجرام
تقسيــم
سيعالج هذا الفصل موضوع ومناهج البحث في علم الإجرام في مبحثين على التوالي.
موضوع علم الإجرام ( الجريمة والمجرم )
أولا: الجريمة
1- مفهومها
للجريمة مفاهيم متعددة ومتباينة، وهو تعدد يرجعه العلماء للطبيعة المركبة لعلم الإجرام؛ إذ هو علم يعتمد التعددية منهجاً وموضوعاً، ويمكن رد وجهات النظر المختلفة حول الجريمة إلى أربع مفاهيم وهي:
المفهوم القانوني.
المفهوم الاجتماعي.
المفهوم الأخلاقي.
المفهوم الطبيعي.
مفهومها القانوني:
هي ذلك المخلوق القانوني المعاقب بمقتضى القانون، فهي وليدة القانون إذن وصنيعته فلا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون أو بنص، ويعد هذا المبدأ من أهم المبادئ القانونية المؤسسة للحرية بل والمرسخة لها وبفضل هذا المبدأ صار مجال التجريم والعقاب واضحاً لا غموض فيه. ومن أهم نتائج هذا المبدأ عدم جواز تطبيق القوانين العقابية على أفعال ارتكبت قبل تجريمها بمقتضى هذه القوانين وهو ما يعرف بعدم رجعية القانون الجنائي باستثناء الأصلح للمتهم حيث يطبق بأثر رجعي. هذا عن مفهومها القانوني عامة، أما عن مفهومها الجنائي وبعبارة أوضح لدى فقهاء القانون الجنائــي، فهــي "فــعل غير مشروع صادر عن إرادة جنائية يقرر له القانون عقوبة أو تدبيراً احترازيًّا "( ).
وهي كذلك حسب العلامة الفرنسي جارو ذلك " الفعل الذي يفرض له القانون عقاباً " ( ).
وحسب م 110 من ق ج المغربي " هي عمل أو امتناع مخالف للقانون الجنائي ومعاقب عليه بمقتضاه ".
وقد وجهت العديد من الانتقادات للمفهوم القانوني للجريمة من قبل بعض العلماء، انطلاقا من أن الجريمة بمفهومها الوارد أعلاه لا تصلح كموضوع بحث لعلم الإجرام، ويؤكد هذا البعض وجهة نظره بالقول بأن القانون الجنائي يجرم إلى جانب الأفعال الخطيرة أفعالا بسيطة كالمخالفات والجرائم غير العمدية، وهي في حقيقة الأمر لا تشكل انحرافاً أو شذوذاً يستدعي الدراسة والاهتمام.
ويضيف أنصار هذا الاتجاه انتقاداً آخر للمفهوم القانوني للجريمة يكمن في عدم استقراره وثباته، إذ الأفعال المجرمة تختلف من زمن إلى آخر بل ومن مكان إلى آخر في نفس الفترة الزمنية..... ولذلك يذهب أنصار هذا الاتجاه إلى نبذ المفهوم القانوني للجريمة وتعويضه بمفهوم أوسع نطاقاً، وهو تحديداً المفهوم الاجتماعي للجريمة ؟ فما المقصود به ؟؟
مفهومها الاجتماعي:
ومضمون هذا المفهوم الربط بين الجريمة وبين مصالح وقيم المجتمع، فالجريمة وفق هذا المفهوم هي كل فعل أو امتناع يتعارض مع القيم والأفكار التي استقرت في وجدان الجماعة. فهي كذلك كل ما يتعارض مع مصلحة الجماعة.
وفي هذا السياق يعرفها " Emile Durkheim " بأنها:
"Tout acte qui a un degré quelconque détermine contre son auteur cette réaction caractéristique qu’on nomme la peine ( )."
وقد وجهت لهذا المفهوم بدوره العديد من الانتقادات، أهمها تركيزه على القيم الاجتماعية التي يشكل خرقها وعدم احترامها جريمة، والحال أن هذه القيم هي بدورها غير ثابتة وغير مستقرة، بل هي تتطور بتطور الظروف الاقتصادية والسياسية والدينية.... داخل المجتمع الواحد.
كما يعيب هذا المفهوم أيضا اتساعه وعدم وضوحه إذ يشمل كل أشكال وصور الانحراف الاجتماعي، وهو ما يقحم علم الإجرام بالضرورة في دراسة ظواهر قد تخرج عن نطاق اختصاصه.
مفهومها الأخلاقي:
معلوم أن الأخلاق هي مجموع ما يتمثله الأفراد داخل المجتمع من قيم ومثل عليا مقدسة يحرم الخروج عليها. ويرى أنصار المفهوم الأخلاقي للجريمة في هذا التحديد تعريفاً مناسبا للجريمة يمكن الانطلاق منه في دراسات وأبحاث علم الإجرام.
فالجريمة وفق هذا المفهوم أو التحديد هي كل فعل أو سلوك مخالف للقيم والمثل السامية السائدة في المجتمع وهي بذلك كل تضاد مع القانون الطبيعي للأخلاق.
وقد وجهت العديد من الانتقادات لهذا المفهوم بدوره مجملها غموضه وعموميته بل عدم واقعيته، انطلاقا من مثالية وعدم واقعية القانون الطبيعي للأخلاق، فهو كفكرة مثالية تتجاوز الواقع وتسعى إلى الرقي بالإنسان إلى عالم المثل والقيم، ولذلك لا يصلح هذا المفهوم كنقطة انطلاق لدراسة الظاهرة الإجرامية في علم الإجرام لأن هذا المفهوم ينأى بعلم الإجرام عن موضوعه وغايته.
مفهومها الطبيعي:
ويستند هذا المفهوم إلى المشاعر الأدبية كمعيار للجريمة ( الطبيعية ) فهذه الأخيرة هي كل ما يتعارض مع المشاعر الأدبية ( الغيرية ) وبصفة خاصة مشاعر الشفقة والأمانة، وهي بدون شك مشاعر ثابتة في كل الأزمنة والأمكنة ولذلك فهي تنتقل من جيل إلى آخر دون أن تتغير أو تتبدل، وكل خروج أو تعارض معها يشكل جريمة طبيعية ولو اختلفت الأزمنة والأمكنة.
ومن المؤيدين لهذا الطرح الفقيه الإيطالي جارو فالو، وقد تعرض هذا الطرح لنقد شديد مفاده أن الجرائم تخضع للتبدل والتطور في الزمان والمكان؛ فالقول بأن هناك أفعالا تشكل جرائم في كل الأزمنة والأمكنة قول خاطئ، فما كان مجرما في زمن ومكان معينين قد لا يبقى كذلك في زمن آخر. ويؤخذ أيضا على هذا التوجه استبعاده لجرائم كثيرة لعدم مساسها بمشاعر الشفقة والأمان رغم أنها تشكل جرائم في حقيقتها ومن ذلك مثلا الجرائم الاقتصادية والجرائم المرتكبة ضد الإدارة....
مفهومها في علم الإجرام:
لا شك أن جميع المفاهيم التي تم عرضها فيما تقدم تبقى عاجزة عن شرح وتفسير السلوك المنحرف بشكل شمولي، ولذلك تبنى غالبية الباحثين المفهوم القانوني للجريمة ( القائم أساساً على شرعية التجريم والعقاب ) فما يعد جريمة في القانون الجنائي هو أيضا كذلك في علم الإجرام وما يخرجه القانون الجنائي من نطاق التجريم يستبعد أيضا من مجال علم الإجرام.
أما ما أخذ على المفهوم القانوني للجريمة من تقلب وعدم استقرار، فإنه يرد عليه بتطور الواقع الاجتماعي في حد ذاته ثم إن التطور أو التغير لا يشمل الجرائم الرئيسية التي ترتكب بدافع ( العنف - العدوانية - الجشع - الطمع - غلبة الشهوة.... ) وهي بالتحديد موضوع بحث علماء الإجرام. أما الجرائم الفرعية والتي لها أهمية ضئيلة فهي التي تختلف في الزمان والمكان. ولذلك فإن كانت الجريمة بمفهومها القانوني لا تتمتع بالثبات المطلق، فهي على الأقل تتسم بثبات نسبي يكفي لأن يؤسس عليها علم كعلم الإجرام.
تقسم الجرائم وبيان أنواعها
معلوم أن الجرائم في القانون الجنائي تنقسم إلى عدة أقسام تبعاً للأسس التي يرتكز عليها. غير أننا في هذا الدراسة لن تقوم بتوضيح جميع تلك التقسيمات، باعتبار ذلك يدخل في دراسة الأحكام العامة للقانون الجنائي، وإنما فقط سنقتصر على توضيح تلك التي نرى لها صلة خاصة بعلم الإجرام، وهي تحديداً:
* الجرائم بحسب جسامتها:
وتنقسم إلى جنايات وجنح ومخالفات ( Crimes - délits - contraventions ).
وحسب المادة (111) من القانون الجنائي المغربي: " الجرائم إما جنايات أو جنح تأديبية أو جنح ضبطية أو مخالفات، على التفصيل الآتي:
- الجريمة التي تدخل عقوبتها ضمن العقوبات المنصوص عليها في الفصل 16 تعد جناية.
- الجريمة التي يعاقب عليها القانون بالحبس الذي يزيد حده الأقصى عن سنتين تعد جنحة تأديبية.
- الجريمة التي يعاقب عليها القانون بحبس حده الأقصى سنتان أو أقل أو بغرامة تزيد عن مائة وعشرين درهما تعد جنحة ضبطية.
- الجريمة التي يعاقب عليها القانون بإحدى العقوبات المنصوص عليها في الفصل 18 تعد مخالفة ".
وينص الفصل 16 من ق ج على:" العقوبات الجنائية الأصلية هي:
1- الإعدام؛
2- السجن المؤبد؛
3- السجن المؤقت من خمس سنوات إلى ثلاثين سنة؛
4- الإقامة الإجبارية؛
5- التجريد من الحقوق الوطنية.
وتنص المادة 17 على:
" العقوبات الجنحية الأصلية هي:
1- الحبس؛
2- الغرامة التي تتجاوز 1200 درهم؛
وأقل مدة الحبس شهر وأقصاها خمس سنوات باستثناء حالات العود أو غيرها التي يحدد فيها القانون مدداً أخرى.
وتنص المادة 18 على:
" العقوبات الضبطية الأصلية هي:
1- الاعتقال لمدة تقل عن شهر.
2- الغرامة من 30 درهما إلى 1200 درهم.
* الجرائم بحسب المصلحة محل الحماية
وأساس هذا التقسيم تصنيف الجرائم تبعاً لطبيعة المصلحة المحمية جنائياً.
فالجرائم عامة إما أن تمس بالمصلحة العامة ومنها الجنايات والجنح المضرة بكيان الدولة، والجرائم المضرة بالإدارة كالرشوة واختلاس الأموال العامة ومنها أيضا الجرائم الماسة بالصحة العامة...
وإما أن تمس بالمصلحة الخاصة وبمعنى آخر بمصلحة الأفراد، ومنها الجرائم الماسة بحياة الأفراد وسلامتهم كالقتل والضرب والجرح... أو الجرائم الماسة بأموال الأفراد وممتلكاتهم كالسرقة والنصب وخيانة الأمانة.....
* الجرائم بحسب ركنها المعنوي
إلى جانب الركن المادي الذي تتشكل منه الجرائم هناك الركن أو العنصر المعنوي ( (L’élément moral، وهو تلك الرابطة النفسية بين الجاني والسلوك المجرم.
ويتخذ الركن المعنوي صورتين؛ فإما أن يكون عمديا ويسمى قصداً جنائيًّا " L’intention criminelle "، وإما أن يكون غير عمدي (Non intentionnel) ويسمى خطاً غير عمدي ( أو بدون نعت ) وقد جعلت ( المادة 133 ) من ق ج المغربي الركن المعنوي في الجنايات قائماً على القصد الجنائي أو العمد وهو نفس الأمر بالنسبة للجنح إلا ما استثني صراحة، في الوقت الذي جعلت فيه الخطأ ركناً معنويًّا في المخالفات إلا ما استثني صراحة، فكل مخالفة تمثل خطأ ماديًّا " Toute contravention postule ure faute matérielle ".
والقصد الجنائي كما يعرفه فقهاء القانون الجنائي هو القوة النفسية التي تقف وراء النشاط المجرم الذي استهدف به الفاعل إراديًّا الاعتداء على مصلحة من المصالح المحمية من طرف المشرع الجنائي. وهو أيضا إرادة الجاني ارتكاب الجريمة كما حددها القانون( )، وهو إرادة النتيجة( ) المجرمة. ولا يتحقق القصد الجنائي إلا إذا توافر عنصراه؛ أي توافر الإرادة الهادفة إلى تحقيق فعل مجرم، وكذا توافر العلم بعناصر الجريمة من الناحيتين الواقعية والقانونية( ).
أما الركن المعنوي في الجرائم غير العمدية والذي يتخذ صورة خطأ غير عمدي فقوامه عنصران أو ركنان إحداهما إخلال الجاني وقت ارتكاب الجريمة بواجبات الحيطة والحذر التي يفرضها القانون. وثانيهما توافر علاقة نفسية تربط ما بين إرادة الجاني والنتيجة الإجرامية.
ثانيا: المجرم
حسب القانون الجنائي
المجرم هو كل شخص يرتكب جريمة بمفهومها القانوني، ومن الناحية القانونية دائما لا تطلق هذه الصفة على الشخص إلا إذا صدر حكم قضائي يقضي بإدانته وصيرورة هذا الحكم نهائيا غير قابل للطعن فيه، أما في مرحلة التحقيق وطوال فترة المحاكمة فلا يعتبر الشخص مجرماً بل هو متهم (Inculpé) .
والقاعدة أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته( )، وهو مبدأ تبنته ونصت عليه إعلانات الحقوق العالمية والوثائق الحقوقية والدساتير والقوانين الجنائية. والتساؤل الذي يطرح هنا هو هل يعتمد علماء الإجرام هذا التحديد القانوني للمجرم عند دراساتهم له؟
حسب علماء الإجرام
أثار تعريف المجرم بدوره في علم الإجرام جدلا ونقاشاً فقهيين بين علماء الإجرام كذاك الذي أثير حول تحديد مفهوم الجريمة المتقدم بيانه.، حيث رفض بعض علماء الإجرام التعريف القانوني للمجرم بحجة أنه لا يلبي حاجة البحث العلمي التي تستوجب دراسة كل من يرتكب سلوكا منحرفاً وبغض النظر عما إذا تمت إدانته قضائيا أو لم تتم، فعدم التقيد بالوصف القانوني للمجرم لا يرتب أي أثر في مجال علم الإجرام باعتباره علم يهدف كشف حقيقة الظاهرة الإجرامية. وبذلك فالمجرم في علم الإجرام " هو كل شخص ارتكب فعلا مجرماً سواء أدانه القضاء بحكم نهائي أم لم يدنه بعد، وسواء قبض عليه أو عجزت السلطات عن الوصول إليه، وسواء عرفت حقيقة أمره أو ظل سره مجهولا ".
فيما صنف بعض آخر المجرمين ضمن طائفتين، الأولى تضم المجرمين الأسوياء، فيما تشمل الثانية، المجرمين غير الأسوياء التي تضم عديمي الأهلية وناقصيها.
ويذهب أنصار هذا التوجه إلى أن دراسات وأبحاث علم الإجرام يجب أن تتناول أسباب وآثار الجريمة التي تقع من الفئة الأولى ( الأسوياء ) دون غيرهم ( غير الأسوياء ) إذ يجب أن تدخل الدراسات المتعلقة بهم في مجال الطب العقلي لا في مجال علم الإجرام باعتبارهم ذوي عاهات عقلية.
وقد تعرض هذا الرأي للنقد، انطلاقا من أن التفرقة بين الأسوياء وغير الأسوياء أمر صعب ودقيق، كما أنه لم يثبت علميا انحراف غير الأسوياء جميعاً، وإنما يجرم بعضهم دون سائرهم ولذلك يتعين أن تشمل دراسات علم الإجرام كافة المجرمين سواء أكانوا أسوياء أو غير أسوياء.
مناهج البحث في علم الإجرام
تتعدد أساليب البحث في علم الإجرام وفقًا للوجهة التي يركز فيها الباحث دراساته، هذا دون إغفال المناهج المستعارة المعتمدة في هذا العلم، وعلى العموم يمكن إرجاع هذه المناهج أو الأساليب إلى نوعين: الأساليب الفردية و الأساليب الجماعية.
أولا: الأساليب الفردية ( )
وتتمركز حول الأسباب التي دفعت مجرمًا بالذات إلى ارتكاب جريمة معينة، وتشمل دراسة الجانب العضوي للمجرم والجانب الوظيفي وكذا الجانب النفسي وأخيرًا تاريخ حياة المجرم.
1- الدراسة العضوية:
وتعتمد على دراسة أعضاء الفرد مع ملاحظة ما يشوبها من تشوه ونقص ودورهما في السلوك الإجرامي، وقد اتبع هذا الأسلوب البحثي منذ عهد فلاسفة الإغريق، إلا أن اعتماده بشكل جدي وعميق لم يتم إلا مع الطبيب الإيطالي لمبروزو، ولا يقتصر البحث العضوي على دراسة شكل الأعضاء وإنما يشمل دراسة التناسب بينها، فوجود هذا التناسب من انعدامه يكون له كبير الأثر على سلوك الفرد، فمثلا قصر القامة مع ضخامة الوسط يفيد رغبة الشخص وميله إلى الانطواء على الذات.
ومع ذلك لا يمكن أن يفسر السلوك الإجرامي بالاعتماد على هذا الأسلوب وحده، فالأعضاء الخارجية في مجال علم الإجرام ليست قاطعة الدلالة.
2- الدراسة الوظيفية:
وتقوم على دراسة أعضاء وأجهزة جسم المجرم، وتحديدًا دراسة عمل الجهاز العصبي ومدى تأثيره في إفرازات الغدد ( خصوصا الغدة الدرقية). ويستعان في دراسة سير الجهاز العصبي بملاحظة حركات الجفون واللسان واليدين، حيث لوحظ ارتعاش هذه الأعضاء عند بعض المجرمين بسبب وجود خلل في سير جهازهم العصبي.
3- الدراسة النفسية:
ومقتضاها بحث مستوى ذكاء المجرم، عواطفه وغرائزه، وتفيد دراسة الأخيرة في تبين ومعرفة أسباب الجريمة لدى المجرم؛ فغريزة التملك مثلا قد تدفع إلى ارتكاب جريمة السرقة.
4- دراسة تاريخ حياة المجرم:
إلى جانب الأبحاث السابقة تلعب دراسة ماضي المجرم وحاضره ومستقبله دورًا مهما في كشف أسباب الجريمة، وتشكل أيضا دراسة أسرة المجرم من حيث عاداتها والأمراض التي ظهرت في أفرادها دورًا أساسيا في تحديد العوامل الوراثية المؤثرة في المجرم.
ثانيا: الأساليب الجماعية
وتشمل،
1- الأسلوب الإحصائي:
يهدف الإحصاء في علم الإجرام إلى جمع المعلومات والبيانات والوقائع المتعلقة بالظاهرة الإجرامية وترجمتها إلى أرقام، وقد ظهر على يد الباحث الفرنسي Guerry والعالم البلجيكي Quetelet خلال القرن التاسع عشر، كما يفيد في المقارنة بين المجرمين وغيرهم ممن يعيشون في نفس الظروف للوقوف على الأسباب والدوافع التي أدت إلى إجرام هؤلاء دون الآخرين.
ويعتمد في الإحصاء الجنائي على طريقتين أو أسلوبين:
الأول يطلق عليه الإحصاء المكاني( ): ويعنى بدراسة الجريمة في أمكنة معينة ( دولاً أو أقاليم) وعقد مقارنة بينها لتحديد أسباب الجريمة فيها.
أما الأسلوب الثاني فيطلق عليه الإحصاء الزماني( )، ويتم من خلاله دراسة الجريمة في مكان واحد في فترات زمنية متعددة والمقارنة بينها للوقوف على مدى تأثير تغير الظروف الزمنية في الظاهرة الإجرامية.
وقد وجهت مجموعة من الانتقادات إلى الأسلوب الإحصائي، إذ لا يمكن الاعتماد عليه بصفة نهائية في تحديد الظاهرة الإجرامية، فيؤخذ عليه من ناحية عدم تحديده لأساليب الجريمة تحديدًا دقيقًا؛ فمثلا قد يؤكد أن جرائم الاعتداء على الأشخاص تكثر مع ارتفاع الحرارة، إلا أنه لا يفسر هذه النتيجة، وهل تعود إلى التأثير المباشر الذي تحدثه الحرارة على المزاج العصبي للأفراد، أو إلى تزايد الاختلاط والاتصال بين الناس في الجو الحار أم إلى شيء آخر.
كما أن الأسلوب الإحصائي لا يعد تعبيرًا صادقاً عن الإجرام الحقيقي، فالإحصاءات المعتمدة غالبا ما تكون رسمية؛ فهي إما إحصاءات بوليسية تصدرها وزارة الداخلية( ) أو قضائية تصدرها وزارة العدل( ) أو عقابية تصدرها المؤسسات السجنية لتبين عدد الواردين إليها سنويا لتنفيذ الأحكام السالبة للحرية الصادرة في حقهم.
فكل هذه الإحصاءات - أكانت بوليسية أو قضائية أو عقابية - لا يمكن أن تعبر عن الرقم الحقيقي للجريمة مادامت الكثير من الجرائم لا تصل إلى علم السلطات العامة لأسباب مختلفة، منها عدم إلقاء القبض على الجناة أو عدم التبليغ عنها خوفا من الفضيحة والعار ( كالجرائم الجنسية، الإجهاض، الاغتصاب.....) ولذلك تبقى دائما هذه الأرقام - وباختلاف الأزمنة والأمكنة - أرقامًا سوداء Des chiffres noirs تجعل من الدراسة الموضوعية والصادقة للظاهرة الإجرامية أمرًا صعبًا.
وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة للأسلوب الإحصائي، فإن هذا الأسلوب لا يزال يتصدر المكانة الأولى بين باقي الأساليب المعتمدة في علم الإجرام.
2- أسلوب البحث الاجتماعي أو المسح الاجتماعي
ويقصد به تجميع الحقائق عن الظروف الاجتماعية في بيئة ما أو عن ظاهرة معينة في مجتمع ما وذلك من خلال بيان خصائصهما ثم تعميم ما يمكن بلوغه من نتائج على أفراد المجتمع عامة أو على فئة منه. وفي مجال علم الإجرام يعني بوجه خاص تجميع الحقائق المرتبطة بطائفة أو فئة معينة من الناس ( كالمتشردين أو المدمنين على المخدرات أو محترفي الدعارة... ) وذلك خلال فترة زمنية محددة أو في وسط اجتماعي معين ( قرية - مدينة - حي شعبي... ) وفي فصل خاص أو موسم خاص. ولذلك فهو كأسلوب للبحث يتطلب جهدا كبيرا قد يتجاوز قدرات الباحث الفرد، لذا يتعاون في إجرائه فريق من الباحثين مستعينين بوسائل أخرى كالإستبيان والمقابلة ودراسة الحالة. فهو بذلك يقوم بدراسة الجريمة من خلال الواقع؛ أي من خلال نزول الباحث إلى مواطن الإجرام، ويعتمد في ذلك طريقتين:
الأولى: طريقة الاستجواب: وتتم من خلال وضع مجموعة من الأسئلة حول ظروف حياة ومعيشة المجرم (ظروفه الصحية، النفسية، الاجتماعية، الاقتصادية، الدينية ، مستوى التعليم، المهنة...) فتوزع هذه القائمة من الأسئلة على مجموعة من المجرمين في مكان واحد أو منطقة واحدة تتميز بأسلوب إجرامي معين، ومن خلال الأجوبة المختلفة يستطيع الباحث الربط بين مختلف أنواع الجرائم وبين الظروف المشتركة السائدة في تلك المنطقة. ويؤخذ على هذه الطريقة إمكانية الكذب وعدم الصدق في الأجوبة، وهو ما يعدم الدراسة مصداقيتها.
كما أن هذه القائمة من الأسئلة قد تتميز بالطابع الشخصي للباحث، فتتأثر بفكرة معينة تجول في خاطره مسبقًا وهو ما يفقد الدراسة موضوعيتها.
الثانية: الدراسة البيئية( ): من خلال هذا الأسلوب يقوم الباحث بتقسيم المكان الذي يجري بحثه فيه إلى عدة مناطق تختلف في ظروفها الاقتصادية والثقافية والعقائدية... ثم يحاول بيان وفهم مدى تأثير وجود مختلف هذه العوامل أو تخلفها في الظاهرة الإجرامية.
3- أسلوب المقارنة:
تبرز أهمية هذا الأسلوب، كأسلوب مكمل للإحصاء الجنائي، في أنه يقوم بالربط بين النماذج المدروسة التي من خلال مقارنتها ببعضها البعض تستخلص القواعد العامة في علم الإجرام.
كما تعتمد المقارنة عند دراسة المجرمين وغير المجرمين لاستخلاص الصفات المشتركة بين المجرمين وحدهم والتي تعد من عوامل أو دوافع الجريمة.
ثالثا: الأسلوب التكاملي
لم تستطع المناهج العلمية المطبقة في علم الإجرام تحقيق المعادلة العلمية الوحيدة لشرح الظاهرة الإجرامية؛ فلا المدرسة البيولوجية ولا الاجتماعية ولا حتى النفسية استطاعت تفسير السلوك الإجرامي بشكل منفرد، ولذلك نادى بعض العلماء بتطبيق منهج يسمح بالإلمام بالظاهرة الإجرامية (المركبة )، وهذا المنهج هو المنهج التكاملي، إذ يمتاز الأخير بأخذه بعين الاعتبار العوامل المتعددة للسلوك الإجرامي بما في ذلك العوامل (المقنعة) والمقبولة التي اعتمدتها المدارس السابقة ( البيولوجية والاجتماعية والنفسية). ولذلك تميزت الدراسات التي اعتمدته بالكياسة والحذر بل والمصداقية وهو ما جعل منها دراسات علمية ناجحة في علم الإجرام.
المذاهب العلمية في تفسير السلوك الإجرامي
تمهيــــد
رغم أن الدراسات الفلسفية الدينية القديمة كانت تنظر إلى الجريمة كرجس من عمل الأرواح الشريرة والشياطين التي تتقمص روح الجاني، واعتبرتها فيما بعد قدرًا محتومًا لا مفر منه يعبر عن غضب الآلهة، فإن الدراسات الجدية أو بتعبير أدق العلمية لهذه الظاهرة لم تبدأ إلا من عهد قريب كما تقدم بيانه، حيث حاولت مختلف الدراسات الحديثة تفسير السلوك الإجرامي للإجابة على التساؤل الآتي: لماذا يجرم الإنسان؟؟ وبالرغم من حداثة هذا العلم فقد تعددت الأفكار والنظريات بتعدد العلوم والمعارف التي تهتم بالسلوك الإجرامي، ومع ذلك يمكن رد جملة الاتجاهات المختلفة إلى ثلاث مذاهب رئيسية هي :
1) المذهب الفردي: الذي يعزي الجريمة إلى ذات المجرم دون اهتمام بتأثير العوامل الاجتماعية.
2) المذهب الاجتماعي: وهو الذي يرجع أسباب الجريمة إلى المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه المجرم.
ويتوسط المذهبين مذهب ثالث يأخذ بالعوامل الفردية والعوامل الاجتماعية والبيئية، وإن غلب بعض هذه العوامل على الأخرى بحسب كل حالة، ويطلق عليه المذهب المختلط.
وفيما يلي نعرض لأهم النظريات التي برزت وانتشرت في إطار هذه المذاهب.
المبحث الأول: المذهب الفردي في علم الإجرام
تأثر أنصار هذا المذهب بالمنهج التجريبي في البحث، فانطلقوا من شخصية المجرم وذاته من النواحي العضوية والنفسية والعقلية لتفسير السلوك الآثم، ورغم انطلاق أنصار هذا المذهب من نقطة واحدة ( شخصية وذات المجرم ) ومدى إسهامها في إحداث الجريمة، فإنهم اختلفوا فيما بينهم حول مدى قوة تأثير كل عامل من العوامل الفردية، ومدى رجحانه على باقي العوامل، وأكثر المدارس شهرة في هذا المذهب.
1- المدرسة الوضعية الإيطالية.
2- المدرسة التكوينية الأمريكية.
3- مدرسة التحليل النفسي.
1- المدرسة الوضعية الإيطالية
من أهم أقطابها بل ومؤسسيها الطبيب الإيطالي سيزار لمبروزو(Cesare Lombroso) (1835-1909) والأستاذان أنريكو فيري ورفاييل جاروفالو، وكان لمبروزو أول من نبه أذهان الباحثين في علم الإجرام إلى دراسة شخصية المجرم على أساس علمي سليم، وقد ساعدته مهنته كطبيب على التعمق في دراسته حتى خرج منها بنظريته التي ضمنها كتابه الشهير الذي أصدره سنة 1876 عن " الرجل المجرم " ( ) أو " الإنسان المجرم ".
وتتلخص نظرية لمبروزو في أن المجرم يتميز عن غيره بصفات خاصة عضوية ونفسية؛ فمن الناحية العضوية لاحظ أن للمجرم ملامح خاصة تكمن في عدم انتظام جمجمته، حيث شملت أبحاثه 383 جمجمة لمجرمين موتى وحوالي ستة آلاف من المجرمين الأحياء لاحظ من خلالها وجود تجويف غير عادي في مؤخرة الجمجمة ( ) يشبه ذلك الذي يوجد لدى بعض الحيوانات الدنيا (كالقردة).
ومن ضمن ما لاحظه أيضا لدى المجرم كثافة الشعر في الرأس والجسم وضيق الجبهة وضخامة الفكين وطول الأذنين أو قصرهما وبروزهما إلى الخارج بشكل واضح وعدم انتظام الأسنان، وعدم استقامة الأنف، وطول الأطراف والأصابع المفرط.
ولذلك خلص لمبروزو إلى أن المجرم نوع شاذ من الناس يختلف عنهم في تكوينه الذي يجعله أقرب إلى الإنسان البدائي الأول فلا يستطيع التكيف مع المجتمع الذي يعيش فيه.
ومن الناحية النفسية العقلية والمزاجية للمجرم لاحظ لمبروزو كثرة الوشم الذي يرسمه المجرمون على أجسامهم كما لاحظ خلاعة هذه الرسوم الوشمية وبذاءتها، فاستخلص من كل ذلك تميز المجرمين بصفات نفسية أهمها: غلظة قلوب المجرمين وعدم إحساسهم بالألم... وهو ما يجعلهم يرتكبون جرائمهم في سهولة ويسر.
ومن ضمن ما لاحظه أيضا سرعة شفائهم من الأمراض وحدة المزاج لديهم، وميلهم إلى الكسل والغرور وميلهم أيضا نحو الكحول، ورغبتهم الملحة في المقامرة، وإيمانهم الكبير بالخرافات، وشعورهم الدائم بعدم الاستقرار النفسي والعاطفي، وفقدانهم السيطرة على النفس....
وقد اعتقد لمبروزو أن النموذج الإجرامي الكامل للمجرم المطبوع أو " النموذج " هو الذي يتميز بأكثر من خمس سمات انحطاطية، أما النموذج غير الكامل فهو الذي تقل سماته الإنحطاطية عن الخمس دون الثلاث، أما من تقل سماته الإنحطاطية عن الثلاث فهو لا يعتبر نموذجًا إجراميًا معينًا. وأكد لمبروزو أن هذه السمـات الإنحطاطية ( ) التي يتميز بـها المجرم ليست سببًا بذاتها للجريمة، وإنما هي سمات وصفات تميز المجرم عن غير المجرم، بل وتزيد من قابلية الفرد وتضاعف استعداده لارتكاب الجريمة أكثر من غيره. ولذلك انتهى إلى القول بأن المجرم شخص مغلوب على أمره، لأنه طبع على الإجرام فهو مجرم بالفطرة أو بالميلاد « Le criminel né » .
تقديــر نظريــة لمبروزو
أثارت أفكار لمبروزو حماس البعض وإعجابهم بفضل سبقها في إلقاء الضوء على دراسة جسم الإنسان من الناحيتين العضوية والنفسية إلا أنه ما لبث أن انقلب الحماس والإعجاب إلى نقد شديد، ومن جملة ما أخذ على هذه النظرية،
إسراف لمبروزو في تمييز المجرمين بصفات جسدية معينة؛ خصوصًا وأنه حصر دراساته في بعض المجرمين ( الأحياء والأموات) فلم يقم بدراسات مقابلة على عدد مماثل من غير المجرمين حتى يستطيع أن يجزم بتميز المجرمين دون غيرهم بهذه الصفات. وهو ما أفقد استنتاجاته قيمتها ومصداقيتها، ودفعه إلى إعادة النظر فيما خلص إليه محاولا اختبار مصداقية ما توصل إليه في بحوثه السابقة، فانتهى إلى وجود عوامل أخرى غير التي اعتمدها سالفًا تدفع إلى الإجرام. كما انتهى إلى تصنيف المجرمين إلى عدة طوائف( ) هي:
1- المجرم بالفطرة أو بالوراثة: وهو الذي سبقت الإشارة إلى سمات بدنه وملامح شخصيته.
2- المجرم المجنون: وهو من يرتكب الجريمة تحت تأثير المرض العقلي، ولذلك ينبغي وضعه في مصحة عقلية لاتقاء شره.
3- المجرم بالعادة: وهو من اعتاد الإجرام بسبب ظروفه الاجتماعية، وأهمها اتصاله بالمجرمين وإدمانه الخمور والبطالة.
4- المجرم بالصدفة: ويرجع لمبروزو إجرامه إلى الظروف والمواقف التي يجد نفسه فيها وتدفعه إلى الإجرام صدفة أو بسبب حب الظهور أو التقليد.
5- المجرم بالعاطفة: وهو شخص يتميز بحساسية مفرطة تدفع به إلى الانفعالات الهوجاء والعواطف المختلفة من غضب وحب وغيرة وحقد وكراهية....... ويصنف لمبروزو المجرم السياسي في هذه الخانة.
ومن ضمن ما أخذ أيضا على النظرية اللمبروزية عنايتها بدراسة أعضاء وشخصية المجرم فحسب باعتبارها الدافع الأساسي إلى الإجرام، وإغفال دراسة جميع العوامل الاجتماعية أو البيئية على الرغم من دورها المهم في السلوك الإجرامي.
ومما وجه أيضا لهذه النظرية إقرارها بوجود مجرم بالميلاد أو مجرم بالفطرة، وهو ما انتقده البعض بشدة، مؤكدين أن السلوك يكون إجراميا أو غير إجرامي وفقًا لمتطلبات الحياة الاجتماعية واستنادا إلى نص جنائي يصفه بعدم المشروعية، وبما أن صفة المشروعية من عدمها مسألة نسبية تختلف من مجتمع إلى آخر بل ومن زمن إلى آخر في المجتمع الواحد، فإنه لا يقبل القول بأن الشخص الذي يولد بصفات معينة يكون مجرمًا أيا كان المجتمع الذي وجد به أو الزمن الذي ولد فيه.
أنريكو فيري 1856 - 1929 Enrico Ferri
كان فيري تلميذًا للأستاذ لمبروزو فاهتم بما طرحه بشأن التأثير العضوي البيولوجي، غير أنه خلافا لأستاذه اهتم بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كأسباب دافعة لارتكاب الجريمة، ويعتبر فيري مؤسس الجناح البيولوجي الاجتماعي للمدرسة الإيطالية، وإليه يرجع الفضل في تأسيس " علم الاجتماع الجنائي "، كما ابتدع ما يعرف بقانون التشبع الإجرامي أو الكثافة الإجرامية ( ). وقد اعتمد فيري في بحوثه المنهج التجريبي - كما فعل أستاذه لمبروزو - كما تناول في بحوثه الجوانب البيولوجية والنفسية، وقسم المجرمين إلى خمس طوائف هي :
- المجرم بالولادة أو الغريزة.
- المجرم المجنون.
- المجرم العرضي أو بالصدفة.
- المجرم العاطفي أو الانفعالي.
- المجرم المعتاد.
وقد اعتمد فيري أسلوبين للتصدي للجريمة والدفاع عن المجتمع الأول يكمن في الدفاع الوقائي Préventive والآخر هو الدفاع العقابي، وارتأى أيضا أن مواجهة خطورة الجاني تستلزم أمرين: أولهما مواجهتها - أي خطورة الجاني - بالتدابير البوليسية الوقائية، وثانيهما قابليته للتكيف مع الحياة الاجتماعية.
رافائيل جاروفالو ( 1934 - 1851 ) ( Raffaele - Garofalo )
يمثل جاروفالو الجناح القانوني في المدرسة الإيطالية لاهتمامه بالجوانب القانونية. ورغم تأثره هو الأخر بما ذهب إليه أستاذه لمبروزو فيما يتعلق بالمجرم المطبوع بالصفات الإنحطاطية، إلا أنه غلب الإنحطاطية العقلية والنفسية واعتبر المجرم شخصاً غير سوي يتميز بشذوذ خلقي وعقلي موروث يدفعه إلى ارتكاب الجريمة، وقد صنف جاروفالو الجريمة إلى صنفين :
1- الأول أطلق علية الجرائم الطبيعية، وتمثل حسبه سلوكا غير أخلاقي يمس بأخلاقيات المجتمع وينافي كل مشاعر الخير والعدالة (من أمانة وعطف وشفقة وصدق...).
2- وأما الثاني فقد سماه الجرائم المصطنعة، وهي تلك التي يصنعها النظام السياسي والاجتماعي في المجتمع، كالجرائم السياسية و الاقتصادية...
والمجرم الحقيقي في نظر جاروفالو هو الذي يقدم على ارتكاب إحدى الجرائم الطبيعية، كما نبه جاروفالو إلى ضرورة التفريق في المعاملة العقابية بحسب نوع الجريمة وصِنْفِ المجرم، ومن ضمن ما أكده أيضا في العقاب فاعلية إبادة صنف القتلة من المجرمين لاستحالة إصلاحهم، وإبعاد صنف مجرمي العنف عن المجتمع الذي يعيشون فيه، وإجبار صنف السراق على العمل بعد عزلهم وحثهم على كسب عيشهم خلال فترة عزلهم....
ورغم أن جاروفالو حاول تجنب النقد الذي وجه للأستاذ لمبروزو لاعتماد الأخير فكرة المجرم بالفطرة أو بالميلاد وإغفاله حقيقة الوجود القانوني للجريمة، فإن الأستاذ جاروفالو حسب بعض الباحثين لم يوفق بدوره في طرحه، حيث وقع في تناقض صارخ عندما أسس الجريمة الطبيعية على الجوانب الأخلاقية والقيم الاجتماعية التي هي الأخرى غير ثابتة.
* نظريــة تشارلز جورنــــج( ) « Charles Goring »
قام جورنج منذ 1901 بمجموعة من الأبحاث في انجلترا كان هدفه منها تَبَيُّن مدى انتشار علامات الرجعة أو السمات الانحطاطية التي استظهرها لمبروزو بين المجرمين في مقارنتهم بعامة الناس. وانتهى في أبحاثه التي استغرقت ما يقرب من اثنتي عشر عامًا( ) إلى أنه لا توجد فوارق ملموسة بين طوائف المجرمين المختلفة أو بين المجرمين وغيرهم من الناس من حيث توافر علامات الرجعة لديهم. وبذلك استطاع فعلا أن يواجه فرضية لمبروزو في نموذجه المجرم المطبوع.
وقد لاحظ جورنج تميز المجرمين بصفة عامة بنقص في الوزن والطول، وهو نقص عزاه الباحث إلى انحطاط عام موروث في طبيعة المجرم يبدو في قياس مستواه العقلي وغير ذلك من العوامل التي يكون للوراثة دخل فيها.
2- المدرسة التكوينية الأمريكية( ).
من أبرز المؤيدين لنظرية لمبروزو في أمريكا أستاذ الأنتربولوجيا بجامعة هارفارد إرنست هوتون « Ernest Albert Hooton » (1887 - 1954) هذا الأخير الذي تناول بالفحص والتمحيص المجرم الأمريكي من خلال دراسة ما سبق من أبحاث ودراسات حول الموضوع، متخذًا لأبحاثه ( ) مجموعات كبيرة من المجرمين وغير المجرمين انتقاهم من ثمان ولايات أمريكية مراعيًا في اختيارهم ظروفهم الخاصة وعامل الجنس والجنسية. وقد خلص هوتون في أبحاثه إلى وجود صفات انحطاطية موروثة (بيولوجية) يتميز بها المجرمون، وأن هذه الصفات تتعلق بشكل العينين والأنف والفم والأذنين والجبهة، ومقاييس هذه الأعضاء. ولهذا الانحطاط والشذوذ البدني( ) الذي يدل على انحطاط عقلي حسب هوتون أهمية في تبرير الظاهرة الإجرامية.
كما استخلص هوتون من دراساته أن من بين هؤلاء المجرمين يتميز مرتكبوا نوع معين من الجرائم بصفات مشتركة تميزهم عمن يرتكبون جرائم من نوع آخر، فمثلا هناك صفات تميز مرتكبي الجرائم التي تقع ضد الأشخاص كجرائم القتل والنهب، حيث يتميز مقترفوها بطول القامة ونحافة الجسم... فيما يتميز مرتكبو الجرائم الجنسية بقصر القامة و الوزن المفرط... إلخ.
وهكذا رد هوتون الجريمة إلى انحطاطية تكوينية موروثة يتميز بها المجرمون وحدهم يمكن التعرف عليها من خلال ملامح المجرمين وأوصافهم مؤيدًا بذلك ما ذهب إليه لمبروزو في كتابه "الرجل المجرم ". وإن كان هوتون قد ارتأى في الانحطاطية الاجتماعية (المهنة، الحالة الاجتماعية...) دافعاً مهمًا للجريمة.
تقديـــر نظريـــة هوتــــون
على الرغم من أن هوتون قد تجنب النقد الذي وجه إلى لمبروزو والذي يتعلق بأسلوب البحث فلم يكتف بدراسة طائفة المجرمين وإنما شملت أبحاثه مجموعة مقابلة لها من غير المجرمين. إلا أن نظريته تعرضت لانتقادات شديدة شملت منهجه في البحث وكذا النتائج التي توصل إليها.
فمنهجياًّ وقع هوتون في الأخطاء ذاتها التي وقع فيها لمبروزو من حيث عدم مراعاته للشروط التي ينبغي توافرها في العينة محل البحث، حيث أجرى أبحاثه على مجموعة من نزلاء السجون على أساس أن هؤلاء يمثلون المجرمين كلهم والحقيقة غير ذلك، فهؤلاء هم فقط الذين ثبت لدى القضاء إجرامهم، ومن المؤكد أنه يوجد خارج السجون من ارتكب الجريمة ولم يكتشف أمره، أو قضي ببراءته لعدم كفاية الأدلة، كما يوجد خارج السجون كثير من المجرمين الذين حكم عليهم بعقوبات مالية أو حكم عليهم بعقوبة سالبة للحرية مع وقف التنفيذ.
ومن ناحية أخرى فقد أخذ على دراسة هوتون تصنيفها للصفات المميزة للمجرمين بحسب نوع الجرائم. ومنه مثلا قوله بوجود صفات معينة في مرتكبي جرائم الأشخاص وصفات أخرى مغايرة في مرتكبي جرائم الأموال؛ وهو ما يفيد وجود تخصص دائم بين المجرمين في ارتكاب نوع معين من الجرائم، وهذا إن صح أحيانا فإنه كثيرًا ما يخطئ.
ويعيب على النظرية أيضا تركيزها بالأساس على العوامل الفردية (الشخصية) وعدم إعطائها للعوامل الاجتماعية حقها من الدراسة.
وليام شيلدون William Scheldon
اهتم شيلدون كهوتون بالبناء العضوي للإنسان مضيفاً إليه ما أسماه التكوين العقلي والمزاجي للشخصية، ولعله ما مكنه من وضع تصنيف ثلاثي للنموذج البشري، متأثراً في كل ذلك بعلم الأجنة وعلم الفيسيولوجيا والوراثة الجينية. وقد أجرى شيلدون دراسته على أربعة آلاف صورة فوتوغرافية لطلاب تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة والعشرين، فخلص من خلالها إلى وجود ثلاثة نماذج بشرية رئيسية وهي:
1- النموذج الداخلي: المتميز بضخامة أحشاء الجهاز الهضمي والسمنة المفرطة واستدارة أجزاء الجسم.
2- النموذج العظمي: المتميز بقوة الجهاز العضلي وضخامة العظام.
3- النموذج الدقيق: المتميز بانخفاض الصدر وضعف الجهاز العظمي والعضلي وكذلك الأحشاء.
وقد ألحق شيلدون بكل نموذج من هذه النماذج الثلاثة، النموذج العقلي والمزاجي الذي يناسبه؛ فذهب إلى أن النموذج الأول يتميز بالميل نحو الراحة والمرح والإفراط في الأكل... ويتميز الثاني بالميل نحو إبراز القوة البدنية وحب المغامرة والميل نحو المقابلة والتنافس والعدوان.... بينما يتميز النموذج الثالث بالانطوائية والتحفظ.
وليتأكد شيلدون من طرحه قام بإجراء دراسة على بعض الأطفال الجانحين الذين وضعوا ببعض المراكز الاجتماعية ببوستن الأمريكية فخلص بعض إجراء البحث عليهم طبيًّا ونفسيًّا وعَقْلِيًّا إلى اختلافهم من الناحية العضوية، النفسية والعقلية عن غيرهم من الأسوياء (غير الجانحين). وتشكل هذه الاختلافات حسب شيلدون دونية انحطاطية مورثة. وقد أخذ على شيلدون نفس المآخذ التي أخذت على النظريات السابقة، فيما يتعلق بعدم توضيح وتفسير معنى الإنحطاطية وكيفية انتقالها بالوراثة. فضلا عن قلة عدد الجانحين الذين تناولتهم أبحاثه.
وتَبَنَّى طرح شيلدون جلوويك(Glueeck) الذي أكد ميل الأطفال الجانحين عموماً نحو النموذج العضلي (المتميز بالعدوان والمقاتلة والسيطرة...) وإن لم يعتبر التكوين البدني عاملا رئيسيًّا في إحداث السلوك الإجرامي وإنما وازن بينه وبين العوامل النفسية كدوافع مؤثرة في الشخصية الإجرامية.
3- المدرســــة النفسيـــة( )
نظريـــة فرويــــد S . Freud
حاول مؤسسو و أنصار المدرسة النفسية سبر أغوار الجانب الخفي من الشخصية الإنسانية بغية الكشف عن علة الجريمة التي أخفق التكوين البيولوجي في الكشف عنها. ويعد العالم النمساوي سيجموند فرويد رائد هذا الاتجاه، وقد بدأ تفسيره للسلوك الإجرامي بتقسيم النفس إلى ثلاثة أقسام:
- قسم الذات أو الذات الدنيا: ويرمز إليه بكلمة ( هو ) أو الليبدو " Libido " يشمل الاستعدادات الموروثة والنزاعات الغريزية والميول الفطرية التي تتمركز فيما يسمى باللاشعور.
- قسم الأنا: وهو الجانب الشعوري العاقل من النفس الذي يضم مجموعة الملكات العقلية ويرمز إليه بكلمة (EGO). وتحاول الأنا أن تقيم نوعًا من الانسجام والتكيف بين النزاعات الفطرية الغريزية من جهة وبين العادات والتقاليد من جهة أخرى، فإن جانبها التوفيقي تسامى النشاط الغريزي أو كبت في منطقة اللاشعور.
- قسم الأنا العليا: وهو الجانب المثالي من النفس الذي يضم مجموعة المثل والقيم والعادات والتقاليد المورثة والروادع التي تولدها القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية، ويرمز إليه ب (Super Ego) ويعرف هذا القسم أيضا بالضمير، ومهمته مراقبة الأنا ومساءلتها ولومها عن أي تقصير في أداء وظيفتها التوجيهية للنزاعات الغريزية، فهو بمثابة الضابط المسيطر على الأنا الذي يوجهها ويحاسبها إذا ما انطلقت الغرائز من عقالها دونما ضابط يردعها.
دور هذا التحليل في تفسير السلوك الإجرامي
يبدو حسب فرويد أن السلوك الإجرامي يرجع بالأساس إما إلى عجز الأنا عن تكييف الميول الفطرية والنزاعات الغريزية لدى الشخص مع متطلبات وتقاليد الحياة الاجتماعية أو إلى التسامي بها أو كبتها في اللاشعور، وإما إلى وجود الأنا العليا أو عجزها عن أداء وظيفتها الكامنة في الردع. وقد أورد فرويد عدة أمثلة لما يحدث في جوانب النفس البشرية من خلل واضطراب، أهمها عقدة أوديب (Oedipus complex) وعقدة الذنب( Guilt complex) .
أ - عقدة أوديب:
وتنطلق من الغريزة الجنسية التي يختلف اتجاهها بحسب مراحل العمر المختلفة، ففي المراحل الأولى للطفولة يحب الطفل ذاته ويعجب بها، وفي مرحلة ثانية تتجه عواطفه نحو الغير فيميل الطفل في أول هذه المرحلة نحو أفراد من جنسه، وفي مرحلة لاحقة تبدأ الغريزة الجنسية في النضوج، فيميل الشخص نحو الجنس الآخر؛ فيحب الطفل أمه وتحب الفتاة أباها، ويَكره الطفل أباه باعتباره منافس له في هذا الحب، وتكره الفتاة أمها باعتبارها منافسة لها في حبها، وبما أن الوالد يشمل ابنه أو فتاه بالعطف والحب والرعاية، فإن صراعًا يتولد في نفس الأخير سببه تناقص في المشاعر نحو الوالد، فيحبه لأنه يمنحه عطفه وحبه ورعايته... ويكرهه لأنه ينافسه في حبه، ومن هنا تأتي عقدة أديب. وإذا لم تستطع الأنا إنهاء هذا الصراع وتكييفه مع القيم الدينية والتقاليد الاجتماعية أصبح احتمال إجرام الابن واردًا.
ب - عقدة الذنب:
ويتولد من خلالها لدى الشخص شعور بالذنب بسبب تنامي دور الأنا العليا الذي كان منعدما عند السلوك غير الاجتماعي الأول. ويظل الشعور بالذنب يطارد الشخص ( المضطرب نفسيًّا ) ويلح عليه إلى أن يرتكب جريمته رغبة منه في التحرر من هذا الشعور.
تقدير نظرية فرويد
يرجع الفضل إلى فرويد في شذ اهتمام الباحثين إلى ضرورة تعميق البحث في ذلك الجانب المجهول في الشخصية الإنسانية آلا وهو الجانب النفسي. هذا الجانب الذي يفسر في كثير من الحالات ارتكاب بعض الجرائم، ويساعد على وضع خطة علاجية بهدف تقويم المنحرف ومساعدته على التكيف مع المجتمع( ).
ومع ذلك فقد تعرضت نظريته لموجة شديدة من النقد، أهمها الغموض الشديد الذي اتسمت به. ويؤخذ عليها أيضا اعتمادها في تفسير السلوك الإجرامي الحتمية السلوكية أو السيكولوجية وذلك على غرار الحتمية البيولوجية لدى لمبروزو وأنصاره.
والواقع أنه لا توجد صلة حتمية بين الخلل النفسي والجريمة التي هي في حقيقة الأمر سلوك غير قانوني، غير ثابت زمانًا ولا مكانًا. كما أن هذه النظرية لم تستطع تقديم برهان علمي على صحتها، لذلك تهكم عليها البعض بقولهم أن من يجادل أنصار هذه النظرية لن يجد منهم دفاعًا عنها غير تحليل نفسيته هو للقول بأنه يعاني من خلل نفسي يدفعه إلى نقدها ( ).
المبحث الثاني: المذهب الاجتماعي في علم الإجرام
تمهيــد
لم تتبلور وتنتشر أسس وفرضيات هذا المذهب بشكل واضح إلا بعد أن أعلن لمبروزو عن أفكاره في كتابه الشهير " الإنسان المجرم " الذي أحدث ضجة بين صفوف الباحثين الاجتماعيين في أوروبا وأمريكا، ود فع بعضهم إلى رفض النظرية اللمبروزية جملة وتفصيلا، رادين الجريمة إلى عوامل اجتماعية. ومن أبرز هؤلاء في أوروبا دوركايم ولاكاسان وتارد، مانوفرييه (Manouvrier) وهامل (Van-Hamel) ومن رواد هذا المذهب في أمريكا نذكر: سيلين(Sellin) ، سذرلاند (Sutherland) وكريسي (D. Cressy).
وقد بحث علماء الاجتماع السلوك الإجرامي كظاهرة اجتماعية شأنها شأن غيرها من الظواهر الاجتماعية، فاتسمت دراساتهم بطابع واقعي يعتمد على دراسة كل حالة بشكل منفرد لتحديد أسبابها دون أن تتجه عناية الباحثين إلى وضع نظرية عامة تصدق على كافة الحالات المشابهة، ونتيجة لذلك تعددت الدراسات بتعدد الظواهر الإجرامية.
وفيما يلي نتناول أهم النظريات الاجتماعية التي انتشرت في أوروبا، ثم نتبعها بتلك التي ظهرت وانتشرت في أمريكا.
أولا: رواد المذهب الاجتماعي في أوروبا
تمهيد
عرف عن المدرسة الفرنسية البلجيكية للقرن 19 بأنها مدرسة المحيط الاجتماعي لتسليطها الضوء على العوامل الاجتماعية في تفسير الظاهرة الإجرامية، فالمجتمع حسب هذه المدرسة لا يملك إلا المجرمين الذين يستحقهم.
وإذا كانت الإرهاصات الأولى في اعتماد المحيط الاجتماعي لشرح الجريمة قد بدأت مع عالم الرياضيات البلجيكي( ) Quetelet والعالم الفرنسي Guerryالذي اعتقد بوجود جغرافية إجرامية من خلال ربطه الجريمة بعوامل المناخ وكذا الظروف الاجتماعية، فإن بلورة دور المحيط الاجتماعي كسبب للإجرام كان على يد كل من لاكاساني، تارد ودوركايم الذين عاصروا لمبروزو فتصدوا لأفكاره، فجاءت مدرستهم كرد فعل مضاد لأفكار المدرسة التكوينية، وفيما يلي نبين مضمون أفكارهم.
1- لاكاساني( ) ( Alexandre - Lacassagne) (1843 - 1924)
اعتقد لاكاساني أن المجتمعات هي التي تصنع المجرمين فشبهها بالتربة الصالحة لإنبات الجريمة التي يشكل المجرم بذرتها. هذا الأخير الذي شبهه لاكاساني بالجرثومة التي لا ضرر منها إلا منذ اللحظة التي تجد فيها الوسط الملائم لنموها.
وقد اعتقد أيضا بأن التكوين العضوي ( البيولوجي ) يلعب دوراً في إنتاج السلوك الإجرامي.
ويدخل في الوسط الاجتماعي حسب لاكاساني العوامل الطبيعية والجغرافية والثقافية والاجتماعية، فضلا عن سوء التغذية وتعاطي المواد المسكرة والمخدرة، بالإضافة إلى الاضطرابات العصبية... وبذلك خلص لاكاساني إلى أن السلوك الإجرامي ما هو إلا محصلة للوسط الاجتماعي بحكم ما يحدثه هذا الوسط من تأثير في الإنسان.
وقد أخذ على أفكاره المغالاة في اعتبار الوسط الاجتماعي العامل الأساسي في إحداث الظاهرة الإجرامية، مع عدم إنكار فضلها في تسليط الضوء على هذا العامل ( الوسط الاجتماعي ) الذي لا ينكر دوره في إحداث الظاهرة الإجرامية.
2- جابريل تارد( )(1904 - 1843 )(Gabriel Tarde) :
انطلق الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي تارد من الوسط الاجتماعي لتفسير الظاهرة الإجرامية من خلال نظريته المعروفة بنظرية التقليدLa théorie de l’imitation . وقد حاول تفسير نظريته في العديد من كتبه، والتي نذكر منها:
الإجرام المقارن" La criminalité comparée " والفلسفة العقابية " La philosophie pénale " و قوانين التقليد " Les lois de l’imitation "....
وقد وجد تارد في تنشئة الفرد الاجتماعية ومعتقداته الثقافية ومحاكاته للآخرين... أسباباً دافعة للإجرام. وبذلك رفض أن يكون للإجرام علاقة بالتكوين البيولوجي ( الطرح اللمبروزي ).
فالسلوك الإجرامي حسب تارد ليس نمطا سلوكيًّا وراثيًّا، وإنما يتم اكتسابه بالتقليد الذي يتم بين فرد وآخر، أو من جيل إلى جيل، أو من المدينة إلى القرية.
ويفترض تارد لإتمام عملية التقليد أن يكون الوسط الاجتماعي موسوماً بسوء التنظيم مما يتيح الاتصال بين الأفراد الأسوياء والمجرمين. وتتخذ المحاكاة حسبه منهجاً تنازليا ( أي من الأعلى إلى الأسفل ) ومن مجتمع المدينة إلى مجتمع الريف. وبذلك فالجريمة حسبه تصبح حرفة أو مهنة خاصة تستوجب متطلبات ضرورية تنسجم وطبيعة الإجرام.
فهي مهنة ( فريدة ) يتهيأ لها الفرد منذ طفولته المبكرة، من خلال ظروف نفسية واجتماعية وثقافية تساعد على تأهيل الفرد للدخول إلى عالم الجريمة السفلى والانتساب إليه.
هذا وقد صاغ تارد ثلاث قوانين للتقليد لشرح السلوك الإجرامي.
فالقانون الأول أو القاعدة الأولى: تقضي أن يذهب التقليد من الداخل إلى الخارج، وبمعنى أوضح فالأفراد يقلدون بعضهم البعض بصورة أكثر ظهوراً كلما كانوا متقاربين. ولعل هذه القاعدة تفسر سبب إجرام الأطفال الذين يتربون في بيئة تعسة.
أما القاعدة الثانية: فتفيد أن التقليد يأخذ طريقه من القوي إلى الضعيف، أي تقليد المرؤوس لرئيسه الأعلى، ولعله ما يفسر تقليد رؤساء العصابات إذ يحصل التقليد هنا حتى من الأفراد المكونين لهذه العصابات.
أما القاعدة الثالثة: فترتكز على وجود موضات داخل فكرة التقليد نفسها، إذ عند تقارب الأذواق والنماذج فإن الإنسان يقلد الحديث منها دون القديم، فالموضة الجديدة تطرد القديمة ولعله ما يفسر تطور الإجرام واستعمال وسائل وآليات جديدة تواكب التطور الذي تعرفه المجتمعات (منه مثلا تحويل الطائرات، حجز الرهائن.... ).
فخلاصة الرأي عند تارد أن الإنسان لا يتورط في الجريمة نتيجة ميول ذات أصول عضوية نفسية، بل يقع فيها بسبب مؤثرات نفسية كالتوجيه والإرشاد والإيعاز.
وقد أضاف تارد إلى فكرته حول التقليد دراسته عن المجرم المعتاد، وهي دراسة علمية أغنت علم الإجرام، خصوصاً وأنه نظر إليه كمجرم لا أمل في إصلاحه ولا حتى التلطيف من حدته لاعتياده العيش بدون شغل وبدون عقاب. ولعله ما دفع المهتمين بعلم الإجرام إلى التفطن بخطورة المجرمين المعتادين ومحاولة إيجاد ما يناسبهم من عقوبات.
تقديـــر نظريتـــه
يؤخذ على نظرية تارد تشبعه بقانونه الأخلاقي، إذ اعتبر مستوى الإجرام مؤشراً حقيقياًّ للأخلاق في مجتمع معين وهو ما ينتج عنه بالضرورة التلازم بين الأخلاق والجريمة، في حين أن هذا التلازم لا يصدق إلا في جانب ضئيل من الجرائم، وهي الجرائم الطبيعية كما وصفها جاروفالو ( أي الماسة بالشعور العام بالشفقة والأمانة ) ولعله الموقف الذي جعل تارد يبقى سَجيناً لنزعته الفردية ولا يقول بالقطيعة بين الفعل الأخلاقي والفعل الاجتماعي كإحدى السمات الأساسية لعلم السوسيولوجيا في عصره. ومن جهة أخرى يؤخذ على نظريته (حول التقليد) أيضا تجاهلها للعوامل المتداخلة (الاجتماعية والاقتصادية الحيوية) التي تدفع إلى ارتكاب الجريمة. فلا يمكن تفسير السلوك الإجرامي بالاعتماد على نظرية التقليد لوحدها، بل لا يمكن اعتمادها بشكل مطلق وإنما يتعين مراعاة حقيقة التفاوت النسبي في التأثير على الأفراد؛ فلا شك أن الأفراد ليسوا على درجة واحدة من التأثر، فالبعض منهم قد يكون لديه استعداد إيجابي للتقليد بحكم تكوين شخصيته، بينما لا يتوافر مثل هذا الاستعداد لدى غيرهم فيرفضون الانقياد في التقليد. والقول بغير ذلك يعني انضمام كافة الأفراد في المجتمع إلى عالم الجريمة. وحتى إن تم التسليم بعكس ذلك فإن نظرية تارد تبقى عاجزة عن تقديم تفسير تكاملي لعلة الجريمة لعجزها عن تفسير التصرف الأول الذي تم تقليده.
3-إميل دوركايم (1917 - 1858 )( Emile Durkheim )
اعتبر دوركايم الجريمة ظاهرة طبيعية ترتبط وجوداً وعدماً بالمجتمع، فإن كانت تعبيراً عن انعدام الشعور والتضامن في المجتمع الذي تنتشر فيه، فإنها مع ذلك تعد علامة من علامات الصحة في المجتمع.
وقد انطلق دوركايم في دراسته السوسيولوجية من القطيعة( ) مع النزعة الفردية التي كانت سائدة ومسيطرة في القرن 18. وبمعنى أوضح لم يسلم دوركايم بأن الفرد هو أساس تقييم الأشياء، كما أنه لم يسلم بأن المجتمع لا يتكون إلا من مجموع الأفراد، وإنما يمثل شيئا آخر له وجود في حد ذاته أسماه دوركايم " الشيء الاجتماعي ". فالمجتمع حسبه يمثل قوة أكثر من قوة مجموع أفراده وهو ما أطلق عليه الضمير الجماعي الذي يبقى تأثيره على الأفراد قويا، بل يمارس نوعاً من القهر والإلزام على الأفراد من الخارج.
وفي تفسيره دائما للسلوك الإجرامي ذهب دوركايم إلى أن الحياة في المجتمع تفترض وجود قدر من النظام فيه، فإذا أصيب هذا النظام بالخلل انطلق الأفراد وراء تحقيق رغباتهم على نحو مخالف لما ارتضاه وأرساه المجتمع من نظام، ولعله سبب ارتفاع الجرائم في فترات الأزمات الاقتصادية... حيث ربط دوركايم الظاهرة الإجرامية بالمجتمع وأكد أنها باقية بقاء المجتمعات، بل إنها ملازمة لكل مجتمع ينشد التطور. ولشرح فكرته هذه أكد أن الجريمة ظاهرة طبيعية من صنع المجتمع من خلال ما يجرمه من أنماط سلوكية بموجب القواعد السائدة فيه. فإذا ما استطاع المجتمع القضاء نهائيا على هذه الظاهرة، تلاشى ذلك المعيار الذي يفرق بين السلوك المجرم والسلوك المشروع. وهذا بلا شك أمر غير محتمل الحدوث إلا في المجتمعات الخيالية التي لا وجود لها في الواقع ( المجتمع الملائكي ).
وتأكيداً دائما لطرحه أقر أن الجريمة تمثل مرضاً اجتماعيًّا أو ظاهرة معتلة تقابل الظواهر السلمية، ويجب قبولها على أنها تعبير له وظيفته الاجتماعية وذلك لعدة أسباب:
- وجودها في المجتمعات على مر السنين مما يجعل منها ظاهرة مرضية عادية، طبيعية بل ومتوقعة.
- إنها تصبح غير عادية وغير طبيعية عندما تزيد عن المعدل المتوسط المقرر لها.
- انخفاضها عن المعدل المتوسط المقرر لها يدل على وجود ظاهرة اجتماعية غير سوية ( قد تدل على القمع، وتضييق الحريات، هدر الإبداع والابتكار... ).
- لا يمكن اعتبارها مرضية عند عدم تأثيرها سلبا في المهام الوظيفية للمجتمع، بل هي ظاهرة طبيعية عادية، حتى إنها تعبير عن صحة المجتمع وسلامة نظمه عند عدم تعديها المعدل المتوسط المحدد لها.
هذا وقد استعمل دوركايم مفهوم الأنومية (L’anomie) أو اللامعيارية معتبراً إياها سبباً للانحراف الاجتماعي( ). وهي كحالة للاقانون و اللانظام في علاقتها مع الإجرام تعني عند دوركايم تلك الوضعية التي يجد فيها الفرد نفسه عاجزاً عن تحقيق الرغبات الطبيعية التي بدونها لا يمكن للحياة أن تستقيم. وبمعنى آخر فإن المجتمع يعجز عن توفير بعض الرغبات والحاجات لأفراده، مما يدفعهم للبحث عن تحقيقها، وعند العجز عن ذلك يستبحون كل الوسائل بما في ذلك الجرائم التي ترتكبونها نتيجة غياب معيار أو قاعدة يستندون إليها في سلوكهم السوي داخل المجتمع.
وقد تعرضت أفكار دوركايم للنقد، فأخذ عليها ربطها بين استمرارية الجريمة ووصفها بأنها طبيعته (عادية)، ولا شك في أن هذا الربط يشكل خلطاً بين أمرين لا تلازم بينهما؛ فاستمرارية الجريمة لا تؤدي حتماً إلى اعتبارها ظاهرة طبيعية. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإذا كانت كذلك فلماذا أجهد دوركايم نفسه بالبحث فيها ومحاولة شرحها وتفسيرها ما دامت في نظره طبيعية وعادية؟؟.
فلا يجب أن يفهم طرح دوركايم على أنه دفاع عن الجريمة وإنما هو نادى بضرورة الحفاظ على الحالة العادية والسوية للمجتمع. وعلل ارتكاب الجريمة بما تقتضيه وتلزمنا به الحياة الاجتماعية وهو لا يرى مانعاً من عقاب كل من يمس الشعور القوى للضمير الجماعي الذي يعبر عن القيم الأساسية التي يعتمدها هذا الضمير في حياة الأفراد خاصة وحياة الجماعة عامة. أما المساس بالقيم الثانوية فإن الرد عليه ينحصر في اللوم والامتعاض.
ورغم الانتقاد الموجه لهذه النظرية فقد كان لها كبير الأثر على نظريات المذهب الاجتماعي وتحديداً منها التي سادت في أمريكا.
ثانيا: رواد المذهب الاجتماعي في أمريكا
تقسيم
من أهم الدراسات والنظريات الاجتماعية التي سادت في أمريكا:
- نظرية التفكك الاجتماعي.
- نظرية تصارع الثقافات.
- نظرية الاختلاط الفاصل أو التفاضلي.
- نظرية التراخي الاجتماعي.
وفيما يلي نعرض لهذه النظريات تباعاً.
1- نظرية التفكك الاجتماعي Social disorganisation
تربط هذه النظرية سبب وجود الظاهرة الإجرامية بالتفكك الاجتماعي أو انعدام التنظيم الاجتماعي أو عدم التكيف والتوافق بوجه عام أو عدم التناسق والتوازن بين أجزاء ثقافة المجتمع.... ويقيم تورستين سيلين( ) Thorsten . Sellin هذه النظرية على أساس المقارنة بين أنواع المجتمعات المختلفة من ناحية، وبين حياة الفرد داخل المجتمع من ناحية أخرى. فأوضح بأن المجتمعات الريفية أو التقليدية تتسم بالانسجام والتضامن في ظروفها واحتياجات الأفراد فلا يشعر الفرد فيها بالعزلة وعدم الانسجام، ولا يجد في نفسه حاجة إلى اتخاذ سلوك معارض لسلوك فرد آخر أو لهدف من أهداف الجماعة بفضل ما يسود داخلها من تضامن وتآزر في السراء والضراء، ومشاعر إنسانية نبيلة.
وهذا لا يعني أن هذه المجتمعات مجتمعات مثالية لا تعرف الجريمة سبيلا إليها، فلا شك في وقوع بعض الجرائم فيها، ولكنها جرائم قليلة تقع في الغالب بين أفراد هذه المجتمعات وآخرون ينتمون إلى مجتمعات أخرى.
وعلى خلاف ذلك يفتقر المجتمع المتحضر إلى التكامل والاستقرار بسبب اتساع نطاقه وتعدد الجماعات المتباينة فيه، مما يؤدي إلى تعارض المصالح وتضاربها داخله. وأبرز مظاهر هذه الصراعات صراع فئة الفقراء وفئة الأغنياء، وفئة الجاهلين وفئة المتعلمين، وفئة الفاسقين وفئة المحافظين... إلى غير ذلك من تجليات الصراع المجتمعي. ولعله ما شد انتباه علماء الاجتماع الذين خلصوا في دراساتهم وأبحاثهم إلى القول بأن السلوك الإجرامي ما هو إلا ظاهرة اجتماعية تعبر عن اللاتوافق واللانتماء الاجتماعيين اللذان يزدادان في المجتمعات المعقدة أو المركبة التي يضعف فيها دور المؤسسات غير الرسمية في الإشراف على الضبط الاجتماعي المطلوب، حيث يبقى الضبط الاجتماعي من اختصاص السلطات الرسمية التي تفرض قيماً رسمية ملزمة يشكل الخروج عنها جريمة يعاقب عليها القانون.
وعلى مستوى حياة الفرد وتنشئته وجد Sellin وغيره من الباحثين أن الطفل يولد في وسط اجتماعي مفروض عليه منذ البدء أي من الأسرة إلى غاية مجموعة العمل مروراً طبعاً بالمدرسة والأصدقاء فالنادي إلى غير ذلك، وهو في هذا الوسط يواجه أنواعاً من السلوكات داخل مختلف هذه المجموعات نتيجة التصارع والتعارض، وقد يسلك الفرد السلوك السائد فيها حتى يستطيع التجاوب مع أفرادها. وبذلك يستجيب لتأثير إحدى الجماعات دون غيرها إذا كانت هذه الجماعة تستبيح السلوك الإجرامي بينما يستهجنه غيرها.
فالمجرم وفق هذا الطرح يأتي سلوكه الإجرامي كنتيجة لعدم الانسجام الاجتماعي أو نتيجة فقدان الشعور الجماعي أو التفكك الاجتماعي... الذي يتخذ صورة تصارع القيم في المجموعات المختلفة، فيستجيب للمجموعة التي تستبيح المسلك الإجرامي.
تقدير نظرية التفكك الاجتماعي
لابد من الاعتراف بصحة وواقعية الطرح الذي ذهب إليه أنصار هذه النظرية، الكامن في تميز المجتمعات المتحضرة بالتفكك الاجتماعي بتطور وزيادة الإجرام مقارنة مع المجتمعات التقليدية البدائية الأكثر انسجاماً وتآزراً، ولعل الدليل على وجاهة هذا الطرح ارتفاع حصيلة بعض الجرائم عند اضطراب الظروف داخل المجتمع (كحالة الحروب، الثورات، الاضطرابات الاقتصادية...) حيث تنشأ جرائم جديدة كجرائم التموين ومخالفة التسعير وجرائم السرقة.... غير أنها يؤخذ عليها اقتصارها على هذا العامل (التفكك الاجتماعي) كعامل دافع إلى الإجرام وإغفال باقي العوامل (الذاتي منها والاجتماعي). ومن ناحية أخرى لا يمكن الأخذ بهذا الطرح بشكل مطلق ويكفي لتفنيده أن نساءل لماذا يقدم بعض أفراد المجتمع دون البعض الآخر على الجريمة على الرغم من تأثرهم جميعاً بعامل التفكك الاجتماعي؟؟ والواقع أن التفكك الاجتماعي يسهم بقدر أو بآخر إلى جانب عوامل أخرى ذاتية واجتماعية في دفع بعض الإفراد إلى الجريمة.
2- نظرية تصارع الثقافات Conflit de culture
كان دوركايم سباقاً إلى بيان دور الثقافة في الظاهرة الإجرامية في كتاباته، ثم تلقف علماء الاجتماع في أمريكا فكرته فأولوها مزيداً من الاهتمام حتى صارت مذهباً له أنصاره، ومن أبرزهم سيلين، سذرلاند وكريسي.
ومضمون هذا الطرح - أي الصراع بين الثقافـات( ) - تعارض وتناقض ثقافات وقيم ومبادئ معينة تسود في إحدى الجماعات مع ثقافات وقيم ومبادئ تسود في جماعات أخرى. ويتخذ هذا التصارع أحد مظهرين:
الأول: تصارع خارجي وهو تعارض بين ثقافات مجتمعين حضاريين مختلفين، ويرجع بعض العلماء أسباب هذا الصراع إلى ثلاث عوامل:
الاستعمار: حيث يعمد المستعمرون إلى فرض مبادئهم وقواعدهم السلوكية المتمشية مع هذه المبادئ على أفراد الشعب المستعمر. وبذلك فالسلوك المتفق مع القانون والذي كان سائداً قبل فرض مبادئ المستعمر قد يصبح سلوكا مجرماً. ويضرب سيلين( ) مثالا بواقعة تعدد الزوجات التي تشكل جريمة طبقاً للقانون الفرنسي الذي كان نافذاً في الجزائر أثناء فترة الاستعمار، بينما لا يعد هذا السلوك جريمة طبقاً لثقافة وقيم المجتمع الجزائري المسلم( ).
الهجرة L’immigration: ويترتب على الهجرة من مجتمع إلى آخر تسرب ثقافة الجماعة المهاجرة إلى داخل مجتمع المَهْجَرْ مما يؤدي إلى حدوث نزاع بين ثقافتين متباينتين بسبب تمسك الجماعة المهاجرة بثقافتها، وهذا ما لاحظه سيلين في المجتمع الأمريكي الذي هو في الأصل يتكون من مجموعات وفدت إليه من كافة أصقاع العالم.
الاتصال في مناطق الحدود: إذ يؤدي الاتصال بين أفراد الدولتين المتجاورتين، واختلاف حضارة هاتين الدولتين إلى تعارض سلوك الأفراد المنتمين إليهما.
الثاني: تصارع داخلي
ومضمونه تصارع وتعارض الثقافات والأفكار السائدة لدى مجموعات داخلة في مجتمع حضاري واحد ( كجماعة الأسرة، جماعة النادي، جماعة العمل... ). وقد تسود في كل واحدة من هذه الجماعات مبادئ تختلف عن تلك التي تسود في الأخرى وتتعارض معها في الاتجاه، فيميل الفرد إلى السلوك الذي يرضي إحداهما فحسب، وهو سلوك قد يكون غير مشروع. ومن مظاهر هذا الصراع الداخلي أيضا التصادم الذي ينشب بين الثقافة العامة ( ) " La culture dominante" السائدة في المجتمع وبين بعض الثقافات " subcultures Les " الفرعية التي تسود في جماعة صغيرة، وهو ما ينتج عنه اقتراف السلوك المجرم. وأبرز مثال على ذلك جرائم الثأر التي ترتكب نتيجة ثقافات فرعية ترى في الثأر عملا مشروعاً بل واجباً على أبنائها.
تقدير نظرية تصارع الثقافات
لاشك أن لهذه النظرية نصيب من الحقيقة ينبغي التسليم به فلا يمكن إغفال وتجاهل دور النظام الاجتماعي ( بتفاعلاته الثقافية والمبادئ السائدة فيه ) في التأثير على الأفراد نتيجة الصراعات الثقافية التي قد يعيشونها والتي قد تكون سببا أو عاملا دافعاً إلى ارتكاب الجرائم ( كجرائم الثأر كما تقدم بيانه) ولكنها - كالتي سبقتها - لا تستطيع لوحدها تقديم تفسير كلي للظاهرة الإجرامية؛ فالأفراد الذين يعانون من هذا الصراع لا يقدمون جميعاً على ارتكاب الجريمة، مما يعني وجود عوامل أخرى تسهم بقدر أو بآخر في إحداث الظاهرة الإجرامية، ولذلك فهي كالنظريات السابقة تتسم بالمبالغة والقصور.
3-نظرية الاختلاط الفاصل أو المخالطة الفارقة"Théorie de l’association différentielle"
هي نظرية نادى بها العالم الأمريكي سذرلاند " Edwin. Sutherland " الذي يمثل المدرسة الأمريكية لعلم الإجرام، ويرى أن السلوك الإجرامي لا يمكن أن يرجع في كل الأحوال إلى حالة الفقر أو إلى مجرد عوامل سائدة كالظروف والعوامل النفسية أو الاجتماعية التي تتصل بالفقر والفقراء. فهناك من الأغنياء من يخالف القانون من أجل المؤسسة التي ينتمي إليها أو من أجل الغايات التي يسعى إليها. ولذلك يعد سذرلاند أول من ركز على إجرام الأغنياء، ودرس الجرائم التي يرتكبها ذوو الياقات البيضاء" White Colar Crime/ Crimes en col blanc ".
وقد انطلق " E. Sutherland " في دراساته من أن السلوك الإجرامي ليس سلوكا موروثا كما يعتقد البعض، كما أنه ليس ثمرة لعامل واحد أيا كانت طبيعته، وإنما هو سلوك يكتسبه الفرد عن طريق الاحتكاك والاختلاط بالمجرمين.
وعن كيفية حدوث ذلك، حاول إدوين من خلال بحوثه ودراساته التي نشرها سنة 1939، وقبلها كتابه " أسس أو مبادئ علم الإجرام "، فضلا عن أبحاثه الأخرى والتي شملت تحديداً بعض الجرائم الخاصة، والسارق المحترف " Le voleur professionnel " أن يشرح ويفسر طرحه من خلال مجموعة أسس ضمنها كتابه " مبادئ علم الإجرام"، مجملها:
1- إن المجرم لا يولد بطبعه مجرماً وإنما يكتسب السلوك الإجرامي عن طريق التعلم من الغير شأنه في ذلك شأن من يتعلم حرفة أو صناعة أو مهنة " Théorie de l’apprentissage ".
2- إن السلوك الجانح مكتسب عن طريق التواصل والاحتكاك بأشخاص آخرين، أتم ذلك بلغة التخاطب العادي أو عن طريق الإشارة أو التقليد ( القدوة والمرجع ) ( ).
3- إن تعلم السلوك الجانح يتم ضمن جماعة محصورة تتميز بالعلاقات المباشرة والشخصية، ولذلك فوسائل الإعلام لا تساهم إلا بدور ثانوي جداً في نشوء السلوك المنحرف.
4- إن التدرب على الانحراف يشمل تعلم التقنيات الإجرامية مع توجيه الميولات والدوافع نحو الجريمة.
5- إن الفرد يصبح مجرماً عند طغيان التفسيرات المضادة للقانون على التفسيرات التي تُؤَيِّدُهُ وتحترمه.
وكذلك عندما تتغلب الاتجاهات الدافعة للإجرام على العوامل المانعة، ويحدث ذلك لدى الفرد عندما يكون على اتصال بأقران له من المجرمين، فيكتسب من اختلاطه بهم الأنماط السلوكية الإجرامية مثلما يكتسب القيم والعادات والتقاليد واللغة ( )....
وفي هذا إشارة واضحة إلى دور التنشئة الاجتماعية في تكوين اتجاهات وميول الشخص، فإما أن ينشأ نشأة تزرع في نفسه حب احترام القانون وإما ينشأ نشأة تدفعه إلى مخالفة أحكامه فيصير مجرماً وذلك بعد أن يتعلم أساليب التخطيط للإجرام وكذا وسائل تنفيذه.
6- تنوع الترابطات الفارقية من حيث التواثر، المدة، الأسبقية والشدة، فإذا تأثر الشخص بمعايير منحرفة وجانحة قبل أن يتعرض لتأثير المعايير المتكيفة والسوية قد يصبح جانحاً بشكل نهائي والعكس صحيح.
7- إن السلوك الجانح رغم أنه يعبر عن الحاجات والقيم إلا أنه لا يفسر من خلالها، لأن السلوك غير الجانح هو أيضا تعبير عن نفس الحاجات والقيم، فاللص يسرق كي يحصل على النقود وهي قيمة، والعامل يعمل من أجل تحقيق نفس الغاية. ولذلك فكل التفسيرات التي تتناول الانحراف غير مجدية لأنها نفسها تفسر السلوكات السوية.
تقديـــر النظريــــة
رغم أن سذرلاند انتقد في دراساته النظريات السابقة التي ربطت الظاهرة الإجرامية بعامل التكوين البيولوجي أو الجغرافي... من حيث أنها لم تبحث في الشروط العامة التي تخضع لها الظاهرة مهما اختلفت الظروف المؤثرة فيها أو العوامل المؤدية لها، فأعلن عن التزامه بالمنهج العلمي القائم على التجريد المنطقي في البحث عن العوامل من ناحية وعلى تحليل هذه العوامل من ناحية أخرى، كما أنه ركز على ضرورة التوقف عند حد معين عند التحليل السببي لتأثير هذه العوامل حتى يمكن التوصل إلى نتائج صحيحة من حيث التنظيم، ولذلك يجب أن تعتمد العوامل التي تحدث أثرها مباشرة وقت تحقق الظاهرة، فيما تهمل تلك العناصر التي توافرت في تاريخ سابق وهو ما يطلق عليه التفسير الديناميكي للموقف، فبالرغم من كل ذلك وقع سذرلاند في نفس الخطأ المنهجي الذي وقع فيه الباحثون السابقون عندما جعل من الاختلاط بجماعة من المجرمين سببًا في إحداث الظاهرة الإجرامية.
لذلك يعيب نظريته ما يعيب باقي النظريات الاجتماعية من ناحية حصرها بل واختزالها دوافع وأسباب السلوك الإجرامي في عامل اجتماعي واحد، فهي كذلك تنكر تأثير العوامل الداخلية (العضوية والنفسية)، وهذا أمر غير سليم لأن مقتضاه كما تقدم القول أن كل الأفراد الخاضعين للمؤثر الاجتماعي يسلكون السبيل الإجرامي، وهو أمر ينافي الواقع دون شك.
من ناحية أخرى، فإن هذه النظرية تحمل في مضمونها معاول هدمها؛ فإذا كان الاختلاط بجماعة المجرمين هو العامل الدافع إلى السلوك الإجرامي فكيف يمكن أن يفسر إجرام المجرم الأول الذي لم يختلط بجماعة من المجرمين؟؟؟
كما أخذ على هذه النظرية عجزها عن تفسير حقيقة تأثير الاختلاط في الاندفاع إلى ارتكاب الجريمة في ظل رفضها لدور وتأثير الخبرات السابقة للمجرم. وقد حاول تلميذ سذرلاند كريسي( ) التصدي لهذا النقد الجوهري، فذهب إلى أن هذه النظرية لا تستطيع أن تقدم تفسيراً علمياًّ عن كيفية اكتساب الفرد للسلوك الإجرامي عن طريق اختلاطه بجماعة الإجرام، لكنها تستطيع أن تنفي بأن الجريمة تنشأ عن اضطرابات عاطفية أو نتيجة العيش في بيئة غير صالحة.....
ومن أهم ما وجه لهذه النظرية أيضا كانتقاد ما قرره صاحبها من أن الفرد يتعلم الإجرام من الجماعة الإجرامية، حيث قيل أن الفرد ليس بحاجة إلى تعلم السلوك الإجرامي وإنما هو بحاجة إلى تعلم السلوك السليم، فالنفس أمارة بالسوء ولا بد من تقويمها من خلال تلقيها المبادئ السامية منذ مراحلها الأولى حتى لا تعوج وتميل إلى الإجرام. ومن جهة أخرى وعلى فرض أننا سلمنا بأن الفرد يتعلم الجريمة ويتدرب عليها في الجماعة الإجرامية التي يختلط بها، فإن ذلك لا يفسر لنا الجرائم التي يرتكبها بعض الأفراد أثناء ثورة نفسية أو انفعال مفاجئ.
ورغم كل الانتقادات التي وجهت لهذه النظرية، فإنها ذات أهمية من ناحية توجيهها الاهتمام بعنصر آخر من عناصر الإجرام آلا وهو الاختلاط، وخصوصاً في ارتكاب بعض الجرائم المنظمة كالمخدرات وبعض جرائم العنف.
4- نظرية ميرتون ( ) التراخي الاجتماعي"Théorie de l’affaiblissement Social "
تعتبر دراسة ميرتون ( Robert - Merton) قفزة نوعية في الفهم العلمي للسلوك الإجرامي، ولتفسيره لهذا السلوك انطلق ميرتون من تحليل البنية الاجتماعية محاولا معرفة الأسباب التي تدفع بعض الأفراد إلى السلوك المنحرف بدل السوي.
ويعتقد ميرتون أن السلوك الجانح إنما هو وليد الوضعية الاجتماعية التي يجد الشخص نفسه فيها وليس وليد الأسباب الداخلية أو الخارجية المنعزلة عن المجتمع.
وقد حاول ميرتون حصر الأنماط السلوكية المتنوعة ( الجانحة والمتمردة والاستسلامية ) من خلال اعتماد مفهوم اللامعيارية أو الأنوميةAnomie أو حالة عدم أنظومة التي تسيطر على المجتمع وتجعله بدون معيار ولا وسيلة ثقافية يعتمدها الناس لتحقيق رغباتهم فيضطرون إذ ذاك للإجرام كوسيلة للسلوك. ولشرح نظريته انطلق ميرتون من أن أغلب الناس لديهم غرائز ورغبات ليست دائما بالضرورة طبيعية، وإنما قد تكون من نتاج الثقافة السائدة في المجتمع ( La culture prédominante) وعدم توافر الإمكانات لجميع فئات المجتمع لتحقيقها قد يدفع بهذه الفئات إلى اعتماد وسائل غير مشروعة لتحقيقها، ولذلك فمضمون نظرية ميرتون في دراسته لكل بنية اجتماعية يقوم على دراسة عنصرين هامين هما:الأهـــــداف والمعاييــــر.
فأما الأهداف: فينطلق ميرتون من أن كل مجتمع يحدد لأفراده مجموعة من الأهداف والاهتمامات التي غالبا ما تكون مشروعة ومرتبة حسب أهميتها.
أما المعايير: فهي مجموعة من القواعد التي تحكم السلوك وتضبط وسائل وسبل الوصول إلى الأهداف من خلال القنوات التي ينظمها المجتمع. والمعايير هي التي تنظم الطرق التي تختلف بحسب قيمتها الاجتماعية حيث هناك الطرق المثلى والطرق المستحسنة والطرق الممنوعة. ويذهب ميرتون إلى أنه كلما وجد توازن بين هذين العنصرين كلما كانت السلوكات داخل البنية تعكس ذلك التوازن.
أما إذا تم الاهتمام بالأهداف على حساب المعايير (الوسائل) فإن الوسيلة حينها ستبرر الغاية، إذ ستصبح كل الوسائل صالحة للوصول إلى الهدف المنشود، وبالتالي سنكون أمام مجتمع ذي بنية اجتماعية غير متكاملة أو مصابة بالخلل( ).
نظريــــات ومــــــدارس أخــرى
1- المدرسة الجغرافية
هي مدرسة يعود الفضل في تأسيسها إلى العالمين البلجيكي كيتليه( ) والفرنسي جيري اللذان عكفا على دراسة الإحصاءات الجنائية التي نشرت في فرنسا منذ 1826.
فقد لاحظ جيري وهو الذي كان مديراً للشؤون الجنائية بوزارة العدل الفرنسية ارتفاعاً في معدلات جرائم الاعتداد على الأشخاص في المناطق الجنوبية من فرنسا وخاصة في فصول الصيف، بينما تكثر جرائم الاعتداء على الأموال في المناطق الشمالية في فصول الشتاء. وهو ما دفع جيري إلى القول بوجود علاقة بين الموقع الجغرافي ودرجة الحرارة من ناحية ومعدلات الجريمة من ناحية أخرى.
وقد صاغ فكرته هذه فيما أسماه قانون الحرارة الإجرامي. وخلص كيتليه إلى نفس نتيجة جيري وإن عمم فكرته بشكل أوسع حيث ربطها بمجموع القارة الأوروبية( ) .هذا وقد ازدهرت هذه المدرسة فترة من الزمن في فرنسا، ليطويها النسيان فيما بعد إلى أن عاودت الظهور والانتشار في الولايات المتحدة الأمريكية على يد ليند سميت " Linde Smith" ولڤن" Levin ".
تقديـــر النظريــــة
إذ كانت هذه المدرسة قد أصابت عند ربطها الجريمة بالعوامل الجغرافية المناخية (الطبيعية البيئية بصفة عامة) ومحاولة ربطها كل ذلك بكم ونوع الجرائم من خلال قانون الحرارة الإجرامي، فإنها مع ذلك تبقى عاجزة عن تقديم تفسير كامل لظاهرة الجريمة.
هذا من جهة ومن جهة أخرى، يذهب أنصار المذهب التكويني إلى أن التأثير لا يأتي من العوامل البيئية المناخية مباشرة، وإنما مما تحدثه تلك العوامل من تأثيرات عميقة في شخصية الفرد سواء من الناحية العضوية أو النفسية.
2- المدرسة الاشتراكية
هي مدرسة تستمد أصولها الفكرية أو الإيديولوجية من الفكر الماركسي ( الاشتراكية العلمية ) التي وضع أسسها كل من كارل ماركس (Marx) وانجليز (Engels) في منتصف القرن التاسع عشر ومن مقتضيات هذا الفكر أن الوضع الاقتصادي هو أساس البنية التحتية التي تقوم عليها الأسس العلوية في مجتمع من المجتمعات، وتبعاً لذلك فإن الواقع المادي هو الذي يحدد أفكار الإنسان وميولاته؛ فالتفاوت الاقتصادي أو بعبارة أدق النظام الرأسمالي هو الذي ينتج الإجرام الذي يعتبر بمثابة ردة فعل ضد الظلم الاجتماعي.
ويؤكد هذا الاتجاه أن المجتمع الاشتراكي لا يفترض فيه ارتكاب الجرائم، إذ لا يعقل أن يرتكب الفرد الجرائم ضد سعادته، وإن وقعت فسيكون ذلك من قبيل المرض ليس إلا. وبذلك فالظاهرة الإجرامية وفقاً لهذا الطرح ترتبط بالنظام الرأسمالي وجوداً وعدماً وأسباباً.
فالمجتمع الاشتراكي الموعود - حسب أنصار الفكر الماركسي - سيكون بلا جريمة بحكم اختفاء كافة مبررات وجودها. فهو مجتمع يقوم على التضامن والمودة وشعاره " من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته ". ولا مكان فيه لجهاز الدولة الفوقي وما يتفرع عنه من أدوات ووسائل قمعية كالقانون والسجون.
ومن أبرز الباحثين الاشتراكين الذين بلوروا هذا الفكر فيما بعد عالم الاجتماع الهولندي وليام بونجر (W. Bounger ) الذي نشر أفكاره في كتابه " الجريمة والأوضاع الاقتصادية " سنة 1905، حيث ربط فيه الجريمة بالنظام الرأسمالي ورفض إرجاع أسبابها إلى العوامل الفسيولوجية الوراثية (الاتجاه التكويني في تفسير علة الجريمة ) كما أكد بونجر في إصداراته اللاحقة رفضه القاطع الربط بين الجريمة والأخلاق والقيم من ناحية وبينها وبين الدين من ناحية أخرى، مؤكداً أن الأخلاق والقيم الدينية ليست سوى إفرازات لما يُخَلِّفُهُ النظام الاقتصادي الرأسمالي من علاقات اجتماعية فاسدة قوامها حب الذات والرغبة في التحكم والسيطرة... من جانب الأغنياء، والحقد والكراهية والصراع... من جانب الفقراء.
كما أكد بونجر أن ما يتسم به النظام الرأسمالي من سمات كامنة في تحقيق الربح وفائض الإنتاج وفائدة غير معقولة... يرتب سلوكات منحرفة داخل المجتمع تتمثل في الكذب والسرقة، الغش، العبودية....
وفي هذا السياق يضرب بونجر مثلا بالمجتمعات البدائية ( مجتمعات الفطرة ) التي يؤكد خلوها من جرائم الأموال ( خصوصاً جريمة السرقة ) لانعدام الحاجة إليها بسبب نظام الملكية المشاعة التي كانت سائدة فيها.
وقد خلص بونجر إلى وجود ثلاثة أصناف من الجرائم في المجتمعات الرأسمالية:
الفئة الأولى تهم الطبقة البورجوازية.
الفئة الثانية تهم الطبقة الوسطى.
الفئة الثالثة تهم طبقة العمال.
ولعله تصنيف ذو أهمية بالغة، إذ بفضله صنفت الجرائم إلى: جرائم اقتصادية وجرائم الانتقام أو العنف والجرائم السياسية.
تقديــــر النظريـــــة
لاشك أن لهذه المدرسة الفضل في كشف مساوئ النظام الرأسمالي، وما يؤدي إليه التقسيم الطبقي من ظهور وانتشار جرائم ترتبط أساساً بالظروف المادية الاقتصادية. غير أن هذه المدرسة وإن استطاعت تفسير جرائم الاعتداء على الأموال، فإنها مع ذلك لم تستطع تفسير جرائم الاعتداء على الأشخاص. هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد أخفق أنصارها في إيجاد تفسير مقنع لوقوع بعض الأفراد دون الكافة في براثين الإجرام رغم خضوعهم جميعاً لنظام اقتصادي واحد.
كما يعاب على هذه المدرسة ربطها المطلق للظاهرة الإجرامية بطبيعة النظام الرأسمـالي والحال أن العوامل الاقتصادية (المادية) وإن كان مؤكداً تأثيرها في إحداث الظاهرة الإجرامية، فإنها لا تعدو أن تكون مجرد عامل أو سبب يضاف إلى باقي العوامل ( التكوينية، الاجتماعية، البيئية...). وأخيراً يكفي للتدليل على عدم صحة هذه النظرية أن المجتمعات التي لا تطبق النظام الرأسمالي وعلى رأسها الإتحاد السوفياتي - سابقاً - لا زالت تعاني من ارتكاب الجرائم، وكان مقتضى هذه النظرية أن النظام الاشتراكي يؤدي إلى زوال الظاهرة الإجرامية وهو ما لم يتحقق في الواقع.
المبحث الثالث: المذهب المختلط في علم الإجرام
عرضنا فيما تقدم أهم النظريات التي ضمنها كل من المذهب الفردي والمذهب الاجتماعي في تفسير سبب وعلة الجريمة، كما حددنا منطلقات ومضمون كل نظرية أو مدرسة والانتقادات التي وجهت إليها مضموناً ومنهجاً.
وقد توضح لنا مدى جنوح مختلف هذه النظريات عن اعتماد أسلوب المعالجة الشاملة في تبين عوامل ودوافع الإجرام، حيث انصب اهتمام كل اتجاه على جانب من جوانب الظاهرة الإجرامية غافلاً أو رافضًا الجانب الآخر. وهو ما ترتب عنه الفصل بين المجرم كأساس ومصدر للعوامل الذاتية وبين الوسط الاجتماعي (البيئي) كأساس ومصدر للعوامل الاجتماعية رغم ما بينهما من ترابط عضوي وتأثير وتفاعل متبادلين.
ولعله ما فطن به بعض أنصار المذهبين ( ) (الفردي والاجتماعي) فيما بعد، ليتراجعوا عن غلوهم معترفين بدور العوامل التي أسقطوها من حسابهم أو قللوا من أهميتها أو دورها في إحداث الظاهرة الإجرامية.
هذا وقد انطلق باحثون آخرون من البحث عن أسلوب شمولي إلى حدما ودون الإفصاح عن تفاصيل المضمون، ولعله ما قام به أنريكو فيري الذي رد الجرائم إلى خليط من العوامل الذاتية (العضوية والنفسية) والعوامل الخارجية (الاجتماعية والطبيعية). فخلص إلى وجود قانون للجريمة (قانون التشبع الإجرامي). فيما سلم بعض أنصار المذهب الاجتماعي بدور العوامل الفردية (الشخصية - الذاتية) في إحداث الظاهرة الإجرامية، بسبب عجز بعضهم عن تفسير السلوك الإجرامي لدى البعض دون غيرهم رغم خضوعهم جميعاً لظروف اجتماعية ( بيئية ) واحدة وهو تحديداً ما قام به عالم الاجتماع الأمريكي سذرلاند (Sutherland) الذي جمع في نظريته المخالطة الفارقة بين العوامل النفسية ( والتي هي شخصية ذاتية داخلية ) والعوامل الاجتماعية (والتي هي خارجية بيئية). ولعله أيضا ما ذهب إليه مارتن جولد الذي أكد أن السلوك الإجرامي ما هو إلا صورة لتفاعل داخلي وخارجي.
غير أن المنهج التكاملي في الكشف عن أسباب الظاهرة الإجرامية في إطار المذهب الفردي لم يتبلور في نظرية واضحة الأسس والمضامين إلا بظهور نظرية الاستعداد الإجرامي للعالم الإيطالي دي توليو والتي آثرنا عرضها في إطار هذا المذهب (المختلط) بدل عرضها في إطار المذهب الفردي لاعتماده منهجاً تكاملياً للكشف عن أسباب الجريمة.
وفيما يلي نعرض لأسس هذه النظرية، وتقديرها.
دي توليو Di tullio ( الاستعداد الإجرامي)
تأثر دي توليو( ) بأبحاث ودراسات لمبروزو فجعلها منطلقًا لتأسيس نظريته عن الاستعداد الإجرامي، محاولا تحليل ودراسة شخصية المجرم بوصفها المصدر الأول للسلوك الإجرامي ومعتبرًا الجريمة سلوكًا فرديًّا بيولوجيًّا اجتماعيًّا يحدث بسبب استجابة الدوافع الغريزية للمؤثرات الخارجية.
وينطلق دي توليو من فكرة أساسية تقوم على " التكوين الإجرامي "؛ مفادها أنه كما يتمتع الإنسان بتكوين نفسي وتكوين عقلي وآخر عصبي يجعله قابلا للإصابة بأمراض معينة، فإن لديه أيضا تكوينًا إجراميا إذا ما صادف مؤثرًا أو عاملا خارجيًّا يوقظه هاجت غرائز الفرد دونما رادع يكبحها ليقع الفرد في براثين الجريمة.
غير أن هذا الاستعداد لا يوجد لدى كل فرد في المجتمع، وبتعبير آخر فالأفراد الأسوياء حسب دي توليو لا يتأثرون بعوامل المحيط الاجتماعي كما المجرمين الذين لا يستطعون مقاومة غرائزهم وكبحها والتكيف مع البيئة الاجتماعية بسبب الخلل العضوي( ) والنفسي( ) المتمثل في الاستعداد الإجرامي.
وتقوم فكرة التكوين الإجرامي أو الاستعداد الإجرامي حسب " دي توليو " على وجود نوعين من العوامل: الأولى تكمن في وجود خلل في النمو العاطفي لدى المجرم بسبب عوامل داخلية تتصل بغرائزه وهو ما يصعب عليه تقبل القيم الاجتماعية السائدة في مجتمعه. والثانية تتمثل في العيوب الجسمانية الناجمة عن الخلل الوظيفي دي الصلة بالإفرازات الغددية، وهذا النوع من العوامل هو الذي يخلق الشخصية السيكوباتية غير القادرة على التوافق مع المجتمع.
ولا تكفي العوامل السالفة المحققة للاستعداد الإجرامي لتحقق الجريمة - حسب دي توليو - وإنما ينبغي تفاعلها مع العوامل الخارجية الكامنة في البيئة الاجتماعية.
ويميز " دي توليو " في الاستعداد الإجرامي بين صنفين :
الأول: يطلق عليه الاستعداد الإجرامي الأصيل أو الفطري، ويتصف بالديمومة بسبب ثبات مصدره المتمثل في التكوين العضوي والنفسي والعصبي، وهو الذي يؤدي غالبًا إلى ارتكاب أخطر الجرائم.
والثاني: يصفه بالاستعداد الإجرامي العارض، ويتحقق بسبب وجود عوامل شخصية واجتماعية تُضعف المقاومة وتدفع إلى ارتكاب الجرم صدفة أوعرضًا.
واستنادا إلى نوعي الاستعداد الإجرامي صنف " دي توليو " المجرمين بحسب نوع استعدادهم أو تكوينهم الإجرامي إلى :
فئة المجرمين بالتكوين وتضم:
1- المجرم ذي النمو الناقص: وهو أقرب إلى الإنسان المتوحش كما وصفه لمبروزو.
2- المجرم العصبي السيكوباتي: وهو الذي يتميز بخلل واضح في جهازه العصبي يجعله سريع التأثر والانفعال، ويضم هذا الصنف مرضى ( الصرع والهستريا...).
3- المجرم السيكوباتي: ويتميز بخلل واضح في قدراته الذهنية أو العقلية دون أن يصل إلى حد المرض العقلي أو الذهان.
4- المجرم ذي الاتجاه المختلط: وهو الذي يجمع بين خصائص وصفات الفئات المتقدمة.
فئة المجرمين العرضين:
وهم الذين تدفعهم عوامل خارجية بصفة أساسية للإجرام وتضعف قدرتهم على التكيف مع الحياة الاجتماعية والقوانين السائدة، وتضم هذه الفئة حسب " دي توليو " :
1- المجرم العرضي الصرف: وهو الذي يرتكب أفعالا بسيطة نتيجة ظروف استثنائية لم يتوقعها أو ليس بمقدوره توقعها.
2- المجرم العرضي الشائع: ويتميز بالنقص الخلقي، ويميل إلى ارتكاب الجرائم المالية الخطيرة كما يمكن أن يتحول إلى مجرم معتاد بسهولة.
3- المجرم العرضي بسبب حالات انفعالية عاطفية: وهو الذي يتسم بعدم الاتزان الروحي والخلقي المعتاد كما يتميز بالانفعالات الفيزيولوجية ( المتصلة بوظائف الأعضاء ) ( ).
وتجدر الإشارة إلى أن دي توليو ميز في طائفة المجرمين المجانين بين نوعين: المجرم المجنون والمجنون المجرم.
فالمجرم المجنون: هو الذي يرجع سبب إجرامه إلى تكوين كامن فيه وسابق على إصابته بالجنون. ويبقى دور الجنون زيادة قوة وحدة هذا التكوين الإجرامي. ولذلك فإن شفاء مثل هذا المجرم من جنونه لا يمنعه من العودة إلى الإجرام مرة أخرى لأن التكوين الإجرامي لديه لا يزال قائما.
أما بالنسبة للمجنون المجرم: فيعود إجرامه إلى جنونه (أي مرضه العقلي) دون أن يكون لديه تكوين إجرامي سابق على الجنون، ولذلك فإذا ما شفي من جنونه أو مرضه العقلي زال سبب إجرامه.
تقدير نظرية دي توليو
رغم أن دي توليو حاول في طرحه تجاوز النظرة القاصرة التي شابت النظريات البيولوجية السالفة، حيث سلك منهجًا تكامليًا للكشف عن أسباب الظاهرة الإجرامية يتمثل في الربط بين العوامل الذاتية (الفردية) المتمثلة في التكوين الإجرامي و العوامل الاجتماعية المتمثلة في البيئة المحيطة بالمجرم فإنه هو الآخر لم يسلم من النقد، حيث أخذ على نظريته الربط المطلق بين الاستعداد الإجرامي الفطري و الجريمة. ومن ضمن ما أخذ على هذه النظرية أيضا إنكارها لأي دور مستقل للعوامل الاجتماعية؛ فدور الأخيرة مشروط بوجود التكوين الإجرامي، وهو ما نفاه البعض بشدة على اعتبار أن الكثير من الجرائم يقع بسبب العوامل الاجتماعية والبيئية المحيطة بالمجرم بغض النظر عن عامل التكوين أو الاستعداد.
ويبدو لنا من الإنصاف لنظرية دي توليو الرد على هذا النقد، انطلاقا من أن الاستعداد أو الميل الإجرامي وفقاً لطرح دي توليو قد يكون إما أصلياً أو عرضياً. وأوضح مثال على الميل العارض للإجرام حالة الزوج الذي يقتل زوجته المتلبسة بجريمة الزنا، إذ يمكن القول أن الزوجة استفزت وأثارت ثائرة الزوج فأوجدت لديه اضطراباً نفسيًّا داخليًّا يبرز ويتجلى فيه الاستعداد العارض للإجرام، وبتفاعل العامل الخارجي الذي هو زنا الزوجة والعامل الداخلي الذي هو الانفعال النفسي تفجر السلوك الإجرامي الكامن في قتل الزوجة وشريكها.
ولعل طرح دي توليو سليم ومنطقي، إذ لا يمكن أن تفسر جريمة القتل هذه بالعامل الخارجي لوحده (زنا الزوجة)، والدليل على ذلك عدم ارتكاب كل من يفاجئ زوجته متلبسة بهذه الجريمة لجريمة القتل، فلو كان العامل الخارجي هو المفسر الوحيد لهذه الجريمة لكان من الضروري أن يرتكب جريمـة القتل كل من يفاجئ زوجته في هذا الوضع وهو أمر غير صحيح؛ إذ أن بعض الأزواج فقط دون غيرهم ممن يفاجئون زوجاتهم متلبسات بالزنا يقدمون على جريمة القتل تلك، ولاشك أن الفارق بينهم وبين غيرهم يكمن بالأساس في مدى الانفعال والاضطراب النفسي الذي يسيطر على الفرد نتيجة الموقف الذي تعرض له، وهو ما عبر عنه دي توليو بالميل الإجرامي العارض.
ولذلك يبدو لنا أن طرح دي توليو سليم، وإن آثارنا استعمال تعبير الاستعداد الإنحرافي بدل الاستعداد الإجرامي، على أساس أن الجريمة مخلوق قانوني يتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان، بخلاف الإنحراف الذي يقصد به السلوك غير الاجتماعي بصفة مطلقة بما في ذلك الأفعال والسلوكات التي يعدها المشرع جرائم.
الخلاصة إذن أن الظاهرة الإجرامية تعود لمجموعة من العوامل بعضها داخلي (ذاتي، شخصي، فردي) وبعضها خارجي (اجتماعي، بيئي...) ولذلك كانت الحاجة أكيدة إلى دراسة كل من نوعي العوامل حتى تكون الدراسة موضوعية ومجدية، وتبلغ الهدف أو الأهداف التي أجريت من أجلها.